بوصفي معلما ، وقد أمضيت أكثر من ربع قرن في هذه المهنة النبيلة بحلوها ومرها ، لكني انتهيت الى ان مؤسستنا التعليمية والتربوية بمختلف مستوياتها لم تتمكن من تحقيق أهدافها الجوهرية التي ينشدها المجتمع ويقتضيها المستقبل ، وأهدرت أموالا بما لا طائل منه ، فلا صنعت جيلا متنورا ، ولا أهّلت ملاكا يخدم الدولة بجودة عالية ، ولا أكسبت الأجيال علما ومعرفة كافية ، اما التربية فالحديث عنها يطول ، وبدل أن تقلل الفجوة التي تفضلنا عن المتقدم من المجتمعات ، حصدنا تراجعا وتخلفا عمن حولنا بسنوات يتعذر حسابها ، لماذا ؟ ، لأنها أشاعت وهم المعرفة ، والجهل أهون بكثير من هذا الوهم المدمر .

الأسباب شتى والتحديات عديدة ، ولكل ذرائعه ، وقد يكون من بينها ما هو مقبول ، لكن غير المقبول هو الاستسلام لها ، وتغليب المنافع الشخصية على النهوض بهذه المؤسسة . البدايات ليست وليدة اليوم ، بل منذ وجد القادة ان الأمن فوق التعليم ، وأن يكون المعلم جنديا في المعركة أفضل من أن يكون مقاتلا في المدرسة ، يا للجهل ، لم يدركوا ان الاستقرار يكمن في تحرير العقول من أوهامها ، ومازال ( البسطال ) جاهزا والنطاق شاغلا والرصاص حاضرا ، بما زاد الوحل طينا .

هذه هي الحقيقة ، وما نراه في الواقع يكشف عورات التربية والتعليم ، فها نحن نجني ثمارا عفنة ، ومظاهر العفن بادية لأنظار كل لبيب ، والغاطس منها أعظم وأهول ، فملامح الغابة بدأت بالتشكل ، ولولا بقايا قيم لرأيتم حجم الكارثة ، ويشهد راهننا اهتزازا لتلك القيم ، ويمكن لها التلاشي مستقبلا . بينما نلهو بأكاذيب المنجزات التي لا وجود لها سوى على الورق عن التفكير باستحداث الجديد من القيم وتعزيز الأصيل منها .

عندما نقارن ما أنفق من أموال ، وما بُذل من جهود ، وما أهدر من وقت بما تحقق من أهداف ، سنفاجأ بان غالب المسير باتجاه السراب ، فلا عقدنا مقارنة ، ولا توقفنا لتأمل التجربة ، اختبئنا خلف شكل المدرسة وتغافلنا عن جوهرها ، وطالما الشكل ظاهر ، فليس في العمق تهديد لمن أمسك بمقود المسيرة ، المهم ألا يظهر عفن الثمار في زمنه ، ينظر لنفسه موظفا تقليديا منتميا لرأس الشهر ، وليس قائدا تفترض الوطنية والمسؤولية الأخلاقية أن يصنع للناس مستقبلا آمنا .

بماذا أفسر التراجع المهول في الذوق والآداب العامة ، او في شيوع الروح العدوانية بين الناس ، او في الشباب السائب والمتسكع في الكوفيات ، والطائش في قيادة المركبات ، لمن أعزوا ايصال من لا يجيد التعبير عن فكرة لمقاعد الجامعة العليا ، وأن تكون بيوتنا حدودا للنظافة ، بينما البيئة خارج الاهتمام ، بماذا أعلل تحايل الجميع على الجميع ، واتخاذ الوظيفة سلطة على الناس وليست لخدمتهم ، من زرع روح التسلط في نفوسنا ، من جعلنا مهوسين بالماضي على حساب الحاضر والمستقبل ، وهل غير المدرسة من يتحمل كل هذا الخراب ؟ .

اني لأعجب أن تكون بلادنا الأكثر شهادات عليا ، لكن منجزا علميا يمكن أن يشار له عالميا لم يتحقق ، وما تحقق لبعض الأفراد لم يأت بجهود المؤسسة ، بل بكفاح شخصي ، كابدوا فيه ما كابدوا ، بل ووقفت المؤسسة حائلا دون بروزهم لولا أن فروا بجلودهم .

واستغرب أن تكون بلادنا الأغنى مواردا والأقذر بين البلدان . لم تكن بلادنا عند نشوئها الأكثر مدارس ، بل الأقل ، ومن الطين والقصب جدرانها وسقوفها ، لكنها انتجت أسماء لا يمكن للتاريخ الا أن يتوقف عندها ، فما الذي حدث ؟ أجزم بحاجتنا للمعلم قبل البنايات والمناهج على أهميتها ، المعلم المستنير في فكره ، والمؤهل في مهاراته ، والمشبع بحب العراق ، والمؤمن برسالته ، والشاعر بأبوته لتلاميذه ، والمتأسف لإخفاقهم ، والمشغول بارتقائهم ، وهذا هو النوع ، والبلدان لا تُبنى بالكم أبدا.

[email protected]

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *