«قطر… هذا الحقير الصغير».. هكذا اختارت «ليبراسيون» الفرنسية عنوانا لكامل صفحتها الأولى التي خصصتها لتقريع الدوحة والقول إنها ليست جديرة أبدا بتنظيم كأس العالم وذلك في اليوم ذاته التي تنطلق فيه هذه التظاهرة الكروية.
حفل الافتتاح المبهر الأحد الماضي تجاهلت بثه تماما مثلا القناة الأولى «بي بي سي 1» البريطانية مفضلة الحديث عن فساد الفيفا وتغيير موعد كأس العالم التقليدي وصغر حجم قطر ووضع العمال وحقوق الإنسان والمثليين فيها وغير ذلك. مذيعة «سي.ن.ن» الأمريكية المسكينة لم تجد في خزانتها ما ترتديه يومها سوى ذلك الفستان المزركش بالكامل بألوان المثليين الشهيرة، كما لم يخرج الإعلام الألماني بدوره عن هذا المزاج حتى إن صديقة تونسية مقيمة في ألمانيا بعثت لي مغتاظة تقول: «درست هنا وأعيش هنا منذ 22 عاما ومندمجة تماما في المجتمع حتى أني متزوجة منهم، لكني لم أر قط هذا الحقد والكره الذي رأيته تجاه قطر وهي تنظم كأس العالم».
فرنسا، بريطانيا، ألمانيا.. مجرد نماذج لا غير فهذا السُعار موجود منذ مدة في كثير من وسائل إعلام غربية لكنه ازداد شراسة كلّما اقترب موعد انطلاق البطولة ثم كشّر عن كل أنيابه يوم الافتتاح نفسه، حتى أن بعض الصحف الفرنسية لم تعر حفل الافتتاح أي اهتمام لكنها احتفلت، وبعناوين غاية في الشماتة، بهزيمة قطر أمام الأكوادور في أول مباراة!
قطر ليست فوق أي نقد ولم يزعم أي من مسؤوليها أنها جنة للحريات وحقوق الإنسان، فهي تقول دائما إنها تعمل باستمرار على إصلاح قوانينها وواقعها، لكن القضية ليست هنا بالتأكيد، فكما قال، بكل شجاعة، السفير الفرنسي في الدوحة جان باتيست «نحن لا نعطي دروساً لأن من يعطي دروساً يجب برأيي أن يكون مثالياً وكاملاً، وما من بلد كامل ومثالي»، وهو نفس ما ذهب إليه رئيس الفيفا جيوفاني أنفانتينو حين هاجم بقوة ما اعتبره نفاقا غربيا في هذا المجال.
لم يجد هذا الإعلام في رسائل الحوار والتسامح التي عبّر عنها حفل الافتتاح ما يمكن أن يشيد به، في عالم مشحون بالحروب والكوارث، مفضّلا الخوض في مسائل قد لا يخلو بعضها من وجاهة لكن أغلبها مفتعل أو مهوّل. من المفهوم أن كل بلد ينظم كأس العالم سيجعل كل الأضواء تسلّط عليه وعلى ما فيه من مشاكل فقد كان حديث الأمن هو الطاغي حين نظّم في جنوب إفريقيا (2010) وحديث الفقر في البرازيل (2014) وحديث الحريات في روسيا (2018)، لكنه لم يصل أبدا إلى هذه الدرجة من التعبئة والتضخيم كما يحصل مع قطر الآن إلى درجة الرغبة في أن يهمّش التظاهرة نفسها. يجري ذلك كلّه بنبرة تعالٍ جلية أظهرت أسوأ ما تخفيه الأنفس والعقليات من فكر استعماري لا يرى نفسه سوى مركز العالم كلّه الذي على الآخرين جميعا أن يدوروا بالكامل في فلكه ويعتنقوا نفس قيمه، بدءا من السياسة والاقتصاد وصولا إلى العلاقات الجنسية، خاصة إذا كان هذا الآخر عربيا ومسلما عليه أن يبقى أسير الصورة النمطية التي فصّلت له على مدى عقود فلا يغادرها أبدا.
حين نظم كأس للعالم في فرنسا عام 1998 مثلا لم نر حديثا عن ماضي فرنسا الاستعماري المقيت ولا عمّا تفعله في إفريقيا إلى الآن من نهب للخيرات ودعم للدكتاتوريات ومساندة الانقلابات العسكرية وغيرها، ولا كيف تتعامل مع المهاجرين في بلادها، حتى أولئك الذين ولدوا وآباؤهم على أرضها، وكيف يمارس التمييز ضدهم في التوظيف حتى بمجرّد الاسم كما أثبتت ذلك دراسات عديدة.
سؤال في النهاية: ترى ماذا لو نظّم كأس العالم في «إسرائيل»؟!
هل كنا سنسمع عن صغر مساحتها، وهي بالمناسبة نفس مساحة قطر تقريبا، وعن أنها الدولة التي ترعى أقدم وأطول احتلال في العصر الحديث باحتلالها أراضي الضفة الغربية وغزة منذ 1967 ضاربة عرض الحائط بكل القرارات الدولية؟ هل كنا سنسمع عن التيارات الدينية الفاشية فيها وأنها تعتبر مواطنيها من العرب مواطنين من درجة ثانية؟ وأنها ترتكب في حق إخوانهم في الأراضي المحتلة كل التجاوزات المصنّفة جرائم حرب، كالاستيلاء على الأراضي وضمها بالقوة وإقامة مستوطنات عليها تجلب قاطنيها من كل أصقاع العالم، مقابل هدم بيوت السكان الأصليين بمقابل مالي فاحش وإلا فإن عليك أن تهدم بيتك بنفسك؟ هل كنا سنسمع عن اعتقال الأطفال وقتل الصحافيين؟ هل كانت شيرين أبو عاقلة والتي اغتيلت على أيدي الصهاينة ستتحول إلى مادة لكل برنامج قبل وأثناء كأس العالم؟ هل كنا سنسمع عن الآلاف القابعين في السجون ومئات الآلاف المحاصرين في غزة الموصوفة بأنها أكبر سجن مفتوح في العالم؟
ربما.. ربما كنا سنسمع بعض التعاطف والتأييد للفلسطينيين لو أن هؤلاء قرروا رفع رايات المثليين، أو بدّلت السلطة علمها ليصبح بألوانهم الزاهية..فلربما يصبحون وقتها جديرين بالاستقلال!!
عالم منافق حقا، لكنه الآن عار ومفضوح كما لم يكن يوما.