اكتشفتُ مبكرًا من تجربة التدريس أنه لا يظهر الأستاذ الجامعي المبدع إلا عندما يكون الطالب مستعدًا، وتمنحك المؤسسات التعليمية موقعًا من الحصانة والوقار والدعم المعنوي والمادي، وعقلًا علميًّا مستقلًّا، لا يأخذ الأوامر من الحزب أو الحكومة أو القبيلة السياسية؛ إنه منطق التقدم: كلما تطوَّرت الجامعة شاهدتَ في المجتمع التنظيمَ والاختراعاتِ وازدهارَ أبراج التنمية. لا أخفي أنني بعد عودتي من الخارج، ومعي الشهادة العليا؛ اكتشفتُ ميلي الكبير للبحث العلمي، وليس إلى التدريس، وأن عيني لم تكن تغمض عن الصحافة؛ (ما الحب إلا للحبيب الأول!). لم يستهوني التدريس، وأسلوب التلقين السلبي، وطرائق التدريس التقليدية الرأسية، ولا أيضًا طلبة العلم الذين يجلسون على المقاعد بلا هدف؛ عقولهم مقيّدة بمخرجات نمطية لا تنفع، وثقافتهم لا تصل إلى حدود التأهيل الابتدائي، لا يُجيدون القراءة الخلدونية؛ قراءة وتهجِّي الكلمات.
ربما كان هذا الواقع هو الدافع الأساسي للاهتمام بالتأليف والبحث، وهو تنفيس لمعاناة التدريس التقليدي، وضغوطات الإدارة ومزاجها المتقلِّب. كنت محظوظًا في تقلُّد المناصب الإدارية التي كنت لا أرغب بها، ولا بوجاهتها المزيفة؛ فهي أشبه بقبر في دولنا، واستنزافٌ للطاقة، وقتلٌ للأبداع. لن تحصل على مردوداتها إلا وأنت في السجن أو النفي الإداري أو فقدان الأصدقاء! فكأنها مصيبة أبدية لا تغادر النفس، والمصيبة ألاَّ تستطيع تحمُّلَ المصيبة، حيث ” الأصدقاء نيامٌ عندما يحل الموقع الإداري”؛ كما يقول المثل الأوربي.
هناك بيئة جامعية مُملة ومُنفصلة عن الواقع، وجامعات تفتخر بأرباحها السنوية على حساب جودة التعليم؛ وكأنها مطاعم للشاورما أو محلات البقالة، حيث أساليب التعليم مازالت تنقل سلبيات التعليم التقليدي دون الأخذ بمنجزات العصر الرقمي وتقنياته الحديثة؛ مما أعاق شدَّ المتلقي إلى المحاضرة وترغيبه في التعلُّم. وهي أنماط تعليمية تركز على حشد المعارف على حساب تنمية الإدراك ومهارات التواصل. وصب المعلومات النظرية في عقول الطلبة، وليس ترسيخ التفكير العلمي والقدرة على الابتكار والإبداع، ومنحه الفرصةَ للتفكير والعمل، والحصول على المعلومات بنفسه. إنها أزمة في العمق وليس على السطح! أنا مؤمن بأنه لا يمكن أن يزدهر التعليم إلا بظهور العقل العلمي المبدع في الجامعة، وأن التعليم سيجلب الوظيفة؛ ولكنه لا يجلب دائمًا عقلًا تحليليًّا، ومثلما يقول كونفوشيوس: “لا يمكن أن يحصل الإنسان على المعرفة إلا عندما يتعلم كيف يفكر“.
أتذكَّر جوابًا لأحدهم على أبواب التخرج من كلية الإعلام، قال: “إن الوسيلة الإعلامية تعني الإمبريالية”؛ صُعِقتُ للجواب، وشعرتُ بدوار في رأسي وأوشكت على الإغماء وفقدان التوازن، والسقوط على الأرض من جرَّاء الإمبريالية اللعينة! لقد استأتُ كثيرًا من طريقة إدارة الجامعات للعلم، فقد تحوَّلَت معظمها إلى “سوبر ماركت”، وتجارة لتبليد عقول الشباب، وكسب المال الحرام. كانت ضريبة الأستاذ أن يدفع ثمنًا باهظًا في هذا السوق التجاري؛ عليك أن تتساهل مع الطلبة على النجاح، وأن تكون مُطيعًا ولا مُطاعًا من الطلبة، فتتنازل عن الكثير من القيم والمبادئ التي تعوَّدنا عليها في الحياة. أتذكَّر يومَ استدعاني أحد رؤساء الجامعة في الخليج؛ لأنني كنت صارمًا مع سلوك الطلبة داخل المحاضرة، ولنسبة النجاح المُتدنِّية، وقال لي: راتبي وراتبك من الطلبة؛ إياك أن تنسى هذا الأمر! هناك أيضًا تساهُل واضح في اختيار أعضاء هيئة التدريس، وفق مقياس الربح والخسارة المادية للجامعة؛ فالبروفيسور لا يُشكِّل لها أهمية بقدر ما يهمها ملء الفراغ بكادر ملوَّن؛ ضعيف الخبرة والممارسة والمهارات والضبط الجامعي. كنت أشعر بغربة حقيقية، ونشاز للواقع الجامعي، وأنني أعيش في مدرسة ابتدائية؛ لكنَّ واجهتَها الخارجيةَ تدل على أنها جامعة، بالاسم فقط! بقيت فكرة الكتابة للصحافة حاضرة في عقلي لأسباب أود ذكرها هنا للتوضيح، ليس إلاّ، فأستاذ الإعلام ينبغي أن يكون قدوة لطلبته، في حضوره الدائم في المشهد الإعلامي؛ كاتبًا أو معدًّا إذاعيًّا أو تلفازيًّا. ولقد رأيت العجب العجاب في بعض كليات الإعلام؛ فهذا أستاذٌ يُدرِّس مادة التحرير الصحفي؛ وهو لم يكتب أي خاطرة في حياته!، وهذا آخر مشغول بتدريس مادة الإذاعة والتلفاز؛ وهو لم ير في حياته ستوديو بالإذاعة ! والكثير منهم اكتفى بالشهادة دون حتى أن يطور من نفسه، ولو بقراءة صحيفة أو كتاب معرفي. سيكون من السهل جِدًّا أن نختبئَ تحت الأغطية، ونتمنى أن يختفيَ كل شيء. إن لكلٍّ منَّا في داخله القدرة على توليد الأفكار المبتكرة والعطاء العلمي. وإن مهمة الجامعات هي: إيجاد تلك الأدوات، ومعرفة كيفية استخدامها، وابتكار مهارة العلم والتعلُّم. وقديما قيل: “العقل ليس وعاءً يجب ملؤه، ولكنه نارٌ ينبغي إيقادُها”.