كأني‭ ‬أرى‭ ‬قبركَ‭ ‬في‭ ‬السهوب‭ ‬الأمريكية‭ ‬يتكاثفُ‭ ‬عليهِ‭ ‬الدمع‭ ‬من‭ ‬نحيبِ‭ ‬الألوان؛‭ ‬ويعبقُ‭ ‬بالورد‭ ‬وتتطايرُ‭ ‬حولهُ‭ ‬الفراشات؛‭ ‬وأنتَ‭ ‬تحت‭ ‬الثرى‭ ‬تئنُّ‭ ‬وحيداً‭ ‬في‭ ‬ظلامٍ‭ ‬دامسٍ‭ ‬وغربةٍ‭ ‬موحشةٍ‭ ‬تحيطُ‭ ‬برفاتكِ‭ ‬النحيل‭ ‬كأنَّه‭ ‬فرشاة‭ ‬رسمٍ‭ ‬مهملةٍ؛‭ ‬ومن‭ ‬عينيكِ‭ ‬الشاسعتين‭ ‬تنزفُ‭ ‬الألوان‭ ‬المائية،‭ ‬كأنَّي‭ ‬أبصركَ‭ ‬ترسمُ‭ ‬لوحات‭ ‬موجعة‭ ‬عن‭ ‬وطنك‭ ‬الجريح،‭ ‬لوحات‭ ‬دامعة‭ ‬لمْ‭ ‬ترها‭ ‬معي‭ ‬سوى‭ ‬الملائكة‭ ‬وأقرانك‭ ‬الموتى‭. ‬لم‭ ‬يشعل‭ ‬شمعة‭ ‬الذكرى‭ ‬على‭ ‬ناصية‭ ‬قبرك‭ ‬سوى‭ ‬شقيقكَ‭ ‬المغترب؛‭ ‬وربما‭ ‬زوجتكَ‭ ‬أوقدتْ‭ ‬عود‭ ‬بخور‭ ‬في‭ ‬عزلتها‭ ‬وهي‭ ‬تنظرُ‭ ‬إلى‭ ‬ابنتكَ‭ “‬أمان‭” ‬التي‭ ‬كبرتْ‭ ‬وصارت‭ ‬تعرفُ‭ ‬أنها‭ ‬فقدتْ‭ ‬مملكة‭ ‬الألوان‭ ‬مع‭ ‬رحيلكَ‭ ‬المباغت،‭ ‬إيهٍ‭ ‬يا‭ ‬أمير‭ ‬الألوان‭ ‬المائية؛‭ ‬لماذا‭ ‬تركت‭ ‬فرشاتك‭ ‬عطشى‭ ‬إلى‭ ‬اللون‭ ‬وجائعة‭ ‬إلى‭ ‬الزيت‭ ‬وقد‭ ‬ضرَّجها‭ ‬الدمع‭ ‬بعد‭ ‬غيابك‭ ‬الحزين؟‭ ‬فرشاتك‭ ‬الأنيقة‭ ‬مهملة‭ ‬الآن‭ ‬ويكادُ‭ ‬يخنقها‭ ‬الغبار،‭ ‬هل‭ ‬تعرف‭ ‬أنَّ‭ ‬فرشاة‭ ‬رسمك‭ ‬غزاها‭ ‬الشيَّب‭ ‬من‭ ‬القهر‭ ‬والفراق؛‭ ‬ولوحاتك‭ ‬التي‭ ‬تركتها‭ ‬في‭ ‬مرسمك‭ ‬هربتْ‭ ‬من‭ ‬الوحشة‭ ‬والعزلة‭ ‬والضجر؟‭ ‬من‭ ‬الذي‭ ‬يصدّق‭ ‬أنَّكَ‭ ‬رسمت‭ ‬أوَّل‭ ‬لوحة‭ ‬مائية‭ ‬في‭ ‬حياتكَ‭ ‬وأصابعكَ‭ ‬كان‭ ‬عمرها‭ ‬خمس‭ ‬سنوات؛‭ ‬لوحةٌ‭ ‬بارعةٌ‭ ‬لفتتْ‭ ‬الأنظار‭ ‬إلى‭ ‬موهبتكَ‭ ‬المبكّرة،‭ ‬لم‭ ‬تتعلَّم‭ ‬الرسم‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬أو‭ ‬معهد‭ ‬للفنون،‭ ‬إنّما‭ ‬جاءت‭ ‬الألوان‭ ‬هائمةً‭ ‬متلهفةً‭ ‬وسكنتْ‭ ‬دمكَ‭ ‬فترجمتها‭ ‬إلى‭ ‬لوحات‭ ‬مثيرة‭ ‬ونادرة‭. ‬أذكرُ‭ ‬حين‭ ‬التقيتكَ‭ ‬لأوّل‭ ‬مرَّة‭ ‬مع‭ ‬صديقٍ‭ ‬مولعٍ‭ ‬بالموسيقى‭ ‬وأنتَ‭ ‬تجلسُ‭ ‬على‭ ‬عتبة‭ ‬باب‭ ‬منزله‭ ‬وتستمعان‭ ‬إلى‭ ‬فيروز‭ ‬وترتويان‭ ‬من‭ ‬ابنة‭ ‬الكروم‭ ‬في‭ ‬ليل‭ ‬حزين،‭ ‬شاءتْ‭ ‬المصادفة‭ ‬أنْ‭ ‬نكون‭ ‬نحن‭ ‬الثلاثة‭ ‬في‭ ‬إجازة‭ ‬من‭ ‬الحرب،‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬أعرف‭ ‬أنَّ‭ ‬الذي‭ ‬يسكنُ‭ ‬في‭ ‬زقاق‭ ‬قريب‭ ‬من‭ ‬منزلنا؛‭ ‬رسامٌ‭ ‬من‭ ‬طرازٍ‭ ‬رفيعٍ،‭ ‬دنوتُ‭ ‬منكما‭ ‬أتعثَّرُ‭ ‬بخجلي،‭ ‬وبعد‭ ‬حديث‭ ‬خاطف‭ ‬عن‭ ‬فيروز‭ ‬أهديتني‭ ‬كأسكَ‭ ‬ترحيباً‭ ‬بمقدمي؛‭ ‬وأصبحتُ‭ ‬من‭ ‬أصدقائك‭ ‬المقربين‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬اللقاء‭. ‬كنتُ‭ ‬أزورك‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬وأراكَ‭ ‬منهمكاً‭ ‬برسم‭ ‬اللوحات‭ ‬الزيتية‭ ‬الناطقة‭ ‬بأسى‭ ‬الحرب‭ ‬وأنتَ‭ ‬تستمع‭ ‬إلى‭ ‬أغنيةٍ‭ ‬ريفيةٍ‭ ‬طاعنةٍ‭ ‬بالحزن،‭ ‬كأنَّ‭ ‬اللوحات‭ ‬التي‭ ‬كنتَ‭ ‬ترسمها‭ ‬على‭ ‬القماش‭ ‬لم‭ ‬تستوعب‭ ‬ثورة‭ ‬الألوان‭ ‬في‭ ‬دمكَ،‭ ‬فرسمتَ‭ ‬لوحاتكَ‭ ‬على‭ ‬جدران‭ ‬المنزل،‭ ‬رسمتَ‭ ‬وجه‭ ‬أمّكَ‭ ‬الطيَّبة‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬المعيشة،‭ ‬وقطيع‭ ‬خيول‭ ‬نافرة‭ ‬في‭ ‬صالة‭ ‬الضيوف،‭ ‬حتى‭ ‬جدار‭ ‬المنزل‭ ‬الأمامي‭ ‬خضَّبتَ‭ ‬وجههُ‭ ‬القانط‭ ‬بألوانكَ‭ ‬الساحرة،‭ ‬وحين‭ ‬سألتكَ‭ ‬عن‭ ‬سرِّ‭ ‬هذا‭ ‬الشغف‭ ‬بالرسم؟‭ ‬أخبرتني‭ ‬في‭ ‬جبهة‭ ‬الحرب‭ ‬حين‭ ‬تشحُّ‭ ‬الألوان‭ ‬عندي‭ ‬أرسم‭ ‬لوحاتي‭ ‬بالطين‭! ‬ومع‭ ‬كل‭ ‬لوحةٍ‭ ‬كنتَ‭ ‬ترسمها‭ ‬كان‭ ‬جسدك‭ ‬ينحفُ‭ ‬أكثر‭ ‬ووجهك‭ ‬يصبح‭ ‬شاحباً،‭ ‬كأنَّكَ‭ ‬كنتَ‭ ‬ترسم‭ ‬تلك‭ ‬اللوحات‭ ‬بدمكَ‭ ‬وعصارة‭ ‬روحكَ‭. ‬لم‭ ‬تكنْ‭ ‬تريد‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا،‭ ‬كنتَ‭ ‬تعرفُ‭ ‬أنها‭ ‬ستقتلكَ‭ ‬بعد‭ ‬حين،‭ ‬فطقوس‭ ‬مدينة‭ ‬كربلاء،‭ ‬وسحر‭ ‬بغداد‭ ‬وحنين‭ ‬شوارعها‭ ‬وهواء‭ ‬البلاد‭ ‬كان‭ ‬يسكنُ‭ ‬في‭ ‬شعاب‭ ‬ذاكرتكَ‭ ‬ونسغ‭ ‬قلبكَ،‭ ‬كنتَ‭ ‬تعرفُ‭ ‬أنَّ‭ ‬بعادكَ‭ ‬عن‭ ‬الوطن‭ ‬يعني‭ ‬ذبول‭ ‬أصابعكَ‭ ‬وجفاف‭ ‬الألوان‭ ‬على‭ ‬الفرشاة،‭ ‬حاولتَ‭ ‬خداع‭ ‬الغربة‭ ‬بالغناء‭ ‬وأخفقتْ،‭ ‬وجاهدتَ‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬الذكريات‭ ‬المريرة‭ ‬على‭ ‬لوحاتكَ‭ ‬المنفيَّة‭ ‬لعلَّكَ‭ ‬تنجو‭ ‬من‭ ‬الوحشة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تطبقُ‭ ‬على‭ ‬عزلتكَ،‭ ‬لكنَّ‭ ‬لوحاتكَ‭ ‬التي‭ ‬رسمتها‭ ‬في‭ ‬المنفى‭ ‬فاقمتْ‭ ‬من‭ ‬لوعتكَ‭ ‬وحزنك‭ ‬النبيل،‭ ‬وحين‭ ‬هاتفتني‭ ‬قبل‭ ‬رحيلكَ‭ ‬بأسبوع‭ ‬شعرتُ‭ ‬أنَّ‭ ‬نبرة‭ ‬صوتكَ‭ ‬تشبهُ‭ ‬موكب‭ ‬عزاء‭ ‬في‭ ‬عاشوراء،‭ ‬كأنَّ‭ ‬الذي‭ ‬يكلَّمني‭ ‬مختنقٌ‭ ‬بعبراتهِ‭ ‬ويحفر‭ ‬قبره‭ ‬في‭ ‬يده،‭ ‬حاولتُ‭ ‬غرس‭ ‬وردة‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬مجاهل‭ ‬روحكَ‭ ‬المدمَّرة؛‭ ‬عسى‭ ‬أنْ‭ ‬تستنشق‭ ‬عطرها‭ ‬وتؤجّل‭ ‬موتكَ،‭ ‬لكنكَ‭ ‬كنتَ‭ ‬عازماً‭ ‬على‭ ‬العروج‭ ‬نحو‭ ‬السماء،‭ ‬هل‭ ‬ألقيتَ‭ ‬نظرة‭ ‬وداعٍ‭ ‬على‭ ‬لوحاتكَ‭ ‬قبلَ‭ ‬مباغتةِ‭ ‬الموت‭ ‬إلى‭ ‬قلبكَ‭ ‬الجميل؟‭ ‬هل‭ ‬أمسكتَ‭ ‬بالفرشاة‭ ‬وتركتَ‭ ‬أثراً‭ ‬أخيراً‭ ‬على‭ ‬قماش‭ ‬اللوحة؟‭ ‬كأني‭ ‬كنتُ‭ ‬أراكَ‭ ‬تحاول‭ ‬النهوض‭ ‬من‭ ‬مقعدكَ‭ ‬لعناق‭ ‬ألوانكَ‭ ‬ولوحاتكَ‭ ‬قبل‭ ‬أنْ‭ ‬يقبضُ‭ ‬ملاك‭ ‬الموت‭ ‬على‭ ‬روحكَ‭ ‬الشفيفة‭ ‬ويحملك‭ ‬فوق‭ ‬جناحيه‭ ‬إلى‭ ‬سماواتٍ‭ ‬مجهولةٍ؛‭ ‬وحين‭ ‬سكنتْ‭ ‬روحكَ،‭ ‬ارتدتْ‭ ‬جميع‭ ‬الألوان‭ ‬ثياب‭ ‬الحِداد،‭ ‬وانهمر‭ ‬الدمع‭ ‬من‭ ‬اللوحات،‭ ‬أما‭ ‬فرشاتكَ‭ ‬فراحت‭ ‬تزيح‭ ‬الغبار‭ ‬عن‭ ‬وجهك‭ ‬الحزين‭ ‬وهم‭ ‬ينزلون‭ ‬برفاتك‭ ‬المضرَّج‭ ‬بالعبرات‭ ‬والمخضَّب‭ ‬بالألوان‭ ‬إلى‭ ‬القبر،‭ ‬بينما‭ ‬كنتُ‭ ‬أرثيكَ‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬بعيد‭ ‬وأقول‭: ‬لوحاتكَ‭ ‬منفى‭ ‬ورؤاك‭ ‬شموسٌ،‭ ‬أعرفُ‭ ‬أنَّ‭ ‬الحزنَ‭ ‬رغيف‭ ‬الفنان،‭ ‬لكنْ‭ ‬خبّرني‭ ‬ما‭ ‬جدوى‭ ‬الدمعة‭ ‬لو‭ ‬سقطتْ‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬الألوان،‭ ‬إذاً‭ ‬أغمسْ‭ ‬ريشتكَ‭ ‬الولهى‭ ‬في‭ ‬ماء‭ ‬العين،‭ ‬علَّكَ‭ ‬تبتكرُ‭ ‬فضاءً‭ ‬سحريَّاً‭ ‬للوعة‭ ‬في‭ ‬شفة‭ ‬الأنثى‭ ‬حين‭ ‬يحاصرها‭ ‬الوجد،‭ ‬وترسمُ‭ ‬هذيان‭ ‬الجوع‭ ‬على‭ ‬خارطة‭ ‬الإنسان‭. ‬ما‭ ‬أشقى‭ ‬حنيني‭ ‬ولوعتي‭ ‬عليكَ‭ ‬هذه‭ ‬الساعة،‭ ‬أيها‭ ‬الرسام‭ ‬النادر‭.. ‬صديقي‭ ‬الحنون‭ ‬عبد‭ ‬الأمير‭ ‬علوان‭

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *