“مَنْ لَمْ يَشُمَّ رَائحَةَ “الرُّومْبْلي” فَهوَ مَطْرُودٌ مِنْ رَحْمَةِ المدِينَةِ.”
هَكَذا حَدَّثَني جَدِّي ذَاتَ لَيْلٍ بَارِدٍ كانَ قَدْ تَجَمَّدَ فيهِ كُلُّ شيءٍ، ودَمْدَمَتِ الرِّيحُ بَينَ سَكناتِ القرْيَةِ المهْتَرِئةِ.. أَطْلَلْتُ بِرَأسِي الصَّغِيرِ عَبْرَ مَا كُنَّا نَصْطلحُ عَلَيْهِ بالنَّافِذَةِ هَنْدَسَةَ ذَاكَ، ورَأيْتُ “الرُّومْبْلي” وَقَدْ أصْبَحَ أَكْبَرَ مِنْ يَوْمِ البَارِحَة، وخُيِّلَ إليَّ أنَّهُ عَجَبٌ لَفَظَتْهُ أحْشَاءُ آلِهةٍ مِنَ العَهْدِ القَديمِ، أو غضبٌ يجْثُمُ على أنفاسِنا، وينشُرُ همُومَهُ عليْنا مِنْ حيْثُ لا نحْتسِبُ.. مصْمَصْتُ ما تَبَقَّى مِنْ قُشُورِ البُرْتُقَالَة، وألْصَقْتُ جِلْدَتَها عَلى وَجْنَةِ المدْفَأَةِ حَتَّى انْبَعثَتْ مِنْها وَمَضَاتٌ عَلَى إيقَاعِ طَقْطَقاتٍ خَفِيفَةٍ مُعْلِنَةً اكْتِمالَ الاِحْترَاقِ.. كنا نَعشقُ رائِحةَ احْتراقِ أَغْراضِنا عَلى وَجْنَةِ المدْفأةِ المحْمَرَّة إلى مُنْتهَى السَّقَرِ.. كان كُلّ شَيءٍ فينا يَتَشقَّقُ، أَوْ يحْتَرقُ؛ سَواعِدُنا، وشِفاهُنا، وأَحْلامُنا، وما ملَكَكتْ أَيْمانُ آبائِنا. حتَّى تشَقُّقاتُ خُدودِنا الجَافَّةِ كانَتْ تُشْبهُ تَماماً تشقُّقاتِ جُدرانِنا وَدَفاتِرنا وأَحْلامِنا.. كنَّا نكْتُبُ غَراماً أزَلِيّاً، ونَرْسُمُ أحْلاماً جافَّةً كَأبْدانِنا على صَفْحَةِ المدْفَأةِ مُتَحَسِّرينَ علَى احتِراقِ أسْماءِ محْبُوباتِنا الصَّغيراتِ.. كنا كُلََما ذَهَبْنا، أو قَفَلْنا راجِعِينَ، أوْ ولَّينا وُجوهَنا إلا وَعَنَّ لَنا هَيْكَلُ “الرُّومْبْلي” ليُذَكِّرَنا باحْتِراقِنا اليَوْميِّ.. كَانَ قُرباناً جَماعِيّاً نُهْديهِ لأمَّهاتِنا وآبائِنا، وَنَرسُمُ سَوادَهُ بَينَ شُقوقِ أقْدامِنا الحَافيَّةِ، ونَخُطُّ جُموحَهُ بَينَ سُطور كُرَّاساتِنا البَاهِتَةِ.. لَمْ نكُنْ نُدْركُ حينَها ونَحْنُ مُبْتَهِجونَ بِصُحونِ البطاطِسِ العائِمَةِ في ما يُشْبِهُ المرَقَ أنَّ “السِّيلِكوز” كانَ يُحْيينا بالتَّقْسيطِ نَهاراً، وَيُميتُ آباءَنا بالجُمْلَةِ لَيلاً.. لَمْ أتَنَبَّهْ إلى ذلكَ حَتَّى حَدَّثني جَدِّي في تِلْكَ الَّليْلَةِ عَنْ زَمَنِ “الفرنسيس” ليَلةَ اغْتِصابِ رحِمِ القَريَة ليَلِدَ لهُمْ فَحْماً، ويلِدَ لنا موتاً.. حَدَّثني جَدّي، وحَدَّثْتُ أبْنائِي، وحَدَّثَ أبنائي أحْفادِي، وسَابَقَ حَديثُنا جَريَانَ الوَادي…