وهذا أمرٌ يكاد يتفوّقُ فيه أدباء القرى على أُدباء المدائن والحواضر المشعّة .
إنه حديث المقامرات النسائية وقصائد الحب والغزل الطويل ، فما أن تلتئم ثلة أدباء حتى ينداح
فوق مائدتهم كلام معجون بجحيمٍ من قُبلٍ لم تحدث ، ومن عصرية عشق تحت شجرة لم تبايع
من استظلَّ بها ، وكان كلامهم يجري في حال سكروا بحروفهم الجميلة ، أو بما تيسّر من منقوع العنب العزيز .
في ليلات حانويات كثيرات مبهجات ممتعات كنتها مع الشاعر عبد الوهاب البياتي ، كان يحلو لقلبهِ الأخضر الكبير أن يبدأ حديثاً ساخراً عن شعراء قد خابت محاولاتهم وجهادهم من أجل الفوز بقلب فاتنة ، فذهبوا مذهب صناعة الوهم اللذيذ ، علَّ واحدهم يفزّ صبحية العيد ، ليجد نفسه طائراً مرتدياً ثوب ومعطف دون جوان الشهير ، لكنّ ذلك لم يقع وسينتهي الأمر بزيجة مباركة من ابنة العمّ أو الخال أو الجيران قبل سابعهم ببيتين .
وساعة يغوص الليل في أول الجب وخاصرة الكأس ، سيكون البياتي الجميل قد أوقع
نفسه بذات الفخّ ، حيث سيستعيد عائشة حبيبته الإفتراضية ، ولن ينتهي حتى يصل إلى قصته النادرة وغير المسموعة كثيراً ، وهي حبه الصامت لإبنة سفير إيراني ، وقد عصرَ ذاكرته المضببة فوجد أن اسمها هو فروزندة ، فكتب فيها قصيدة أضافها متأخراً الى صفحات ديوانه ما قبل الأخير ” البحر بعيد أسمعه يتنهد ” .
في هذا الفصل الطيب ، كنت وصحبي الصانعين سوراً حول مائدة القاص عبد الستار ناصر ،
قد أنصتْنا بعظيم شغف وود ، لما كان يسرده علينا ستوري وهو وسيم الوسط الأدبي العراقي ،
من حكايات ليلٍ لا تنسى وليس بمقدور النهار محوها وسوف تصير لاحقاً مقامرات لذيذة برواية عنوانها على فراش الموز .
وفق نبوءة القياس الشائع والتذكر المتسلسل وربما العشوائي ، لديّ أيضاً شاعر من أهل القرى الطيبة ، رثّ الملبس مثقوب الجيب ركيك الحال والحيلة ، كانت الأيام قد حطّت به على حانات وفودكا موسكو الشيوعية الجميلة ، فكتب أجمل الشعر في نساء افتراضيات مصنوعات من خيال ووهمٍ نقيّ ، لا حقيقية بينهنّ سوى الساقية كارنينا ، مدفأة الحانة وعشق الجميع .
أما الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد ، الذي أدركتُهُ في عمّان وهو يخيّمُ قوياً صاحياً حيوياً بعتبة الثمانين ، فمن عاداته أنه كان يعشق قراءة قصائده بصوته وأدائه المذهل ، حتى لو كان
مزروعاً في مطعم ينطر نضوج سمكة ، ومن تلك الأشعار كان شعر الغزل الإفتراضي
حاضراً بقوة ، وغير مكترثٍ لوجود السيدة الصامتة أبداً أُم خالد التي كان يعيب عليها ويغضب لأنها لا تحفظ سطراً واحداً من شعره حتى معلقته حولها .
من الطرائف واللطائف الكثيرة التي سمعتها منه ، قال إنّ بدر شاكر السياب كان يحبه ويعتني به ، ويقدمه ويعرفه على الأدباء في المقهى وفي أمكنة اخرى ، بكلام أكبر من حجم الشاعر الذي ما زال غضاً يحبو عند أول عتبات القصيدة ، ليكتشف أبو خالد متأخراً ، أن سر حب السياب له كان بسبب عشق بدر للشاعرة لميعة عباس عمارة ، وكأن الأمر يشبه قول الشاعر المنخل اليشكري بواقعة شهيرة قال :
أحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري