حدبث عن «مؤامرة خارجية تحاك ضد البلد» صار حديثا موسميا اختصت به عقول وزعامات سياسية احترفت تخويف الجمهور من حريق يُعد له متآمرون محليون «يخدمون الاجنبي» ثم تعبئة هذ الجمهور وراء «المنقذ» الذي يعرف عن المؤامرة ما لا يعرفه احد، ومغزى ذلك ان مواسم التجييش ضد المؤامرة المزعومة يرتبط دائما بالانتخابات او بقرب سباقها، او عندما يتعرض صاحب النفوذ و»المراهن على الفوز» الى الضيق او الحساب أو الفشل في مواجهة التحديات، وشاءت هذه «القوانة» ان ترفع عقيرتها هذه الايام، إذ يدق البعض طبول الحرب لمواجهة المؤامرة التي تحيكها القوى الاجنبية «وتنفذها جهات سياسية محلية» وهذا هو بيت القصيد في تضاعيف الامر، ويتمثل في تصفيات الحساب مع الخصوم السياسيين، بوضعهم موضع التخوين، وتلك هي بالتحديد نظرية المؤامرة. على ان تبشيع نظرية المؤامرة، في الاقل بالنسبة للمراقب الموضوعي، لا يعني عدم وجود مؤامرات وراء الكثير من الصراعات والحرائق، او لا وجود لسياسيين وفئات وقيادات وزعامات دول يتآمرون علينا، وعلى بعضهم البعض، فالمؤامرة (كتدبير سياسي مبيّت) وسيلة قديمة لكسر شوكة الخصوم منذ تكون المجتمعات، وهي موصولة من عمق الموروثات والأخيلة والروايات التاريخية والدينية، تكفي الاشارة الى “المؤامرة” التي دبرها قابيل لقتل اخيه هابيل، حتى مسرحية وليام شكسبير”يوليوس قيصر” المشيّدة على اساس مؤامرة حيكت على الملك من قبل وزيره بروتس الذي غرز الخنجر في ظهره، فلفظ انفاسه الاخيرة وهو يردد عبارة: حتى انت يابروتس، كما تطورت ادوات تنفيذ المؤامرة من حجر قابيل الى خنجر بروتس، عبر الحربة والسيف والسهم واصابع اليدين والنار والحبال والسكين، ومن التآمر بالسم الى احدث تقنيات القتل والاغتيال واحتلال الدول وإفرض الاقدار.فالمؤامرة في الاصطلاح المدرسي هي “مكيدة” وهي من اصل الفعل “أمَرَ” وتأتى بمعنى التشاور و”الامارة”. وأمرَ محمد فلانا بمعني كلفة بشيء، والقول (القاموسي) انهم تآمروا، يعني انهم تشاوروا حول أحدهم، اي اتفقوا على ايذائه، وفعل الايذاء يعطي للتشاور صفة التآمر، مسبوقة بايحاءات مطَمْئنة للضحية (شخصا أو جماعة) تؤدي الى الغفلة، وكلما كان الضحية قليل التحسب والحذر واليقظة كان اسهل للوقوع في شباك المؤامرة.اما نظرية المؤامرة فهو اصطلاح حديث في علوم السياسة، وقد دخل في الاستخدام منذ العقد الثالث من القرن الماضي على هامش الصراع المستفحل بين الكولونياليات، والانشقاق في النظام الدولي بتأسيس الاتحاد السوفيتي، وانتشار اعمال الاغتيال السياسي وتراجع الفكر الموضوعي والتحليلي المستقل، وقد اصبح هذا المصطلح منهجا لتفسير الاحداث مع صعود الحرب الباردة، وشمله “قاموس اوكسفورد” بالاهتمام فصاغه بالكثير من الحذر بوصفه “محاولة لشرح السبب النهائي لحدث او سلسلة من الاحداث السياسية والاجتماعية او التاريخية على انها اسرار” وغالبا ما يحال الامر الى عصبة متأمرة بشكل منظم هي وراء الاحداث.ومع تعقد وتشابك الصراع الدولي والصراعات المحلية، والتغيرات العميقة على وعي الجمهور والضغوط الهائلة على هذا الوعي فقد قدمت نظرية المؤامرة (كل حدث وراؤه مؤامرة) خدمات جليلة للذين اختلطت عليهم الامور وصعُب عليهم البحث الصبور، الواعي والموضوعي، في خلفيات الاحداث، كما ساعدت المسؤولين عن الاخفاقات والفشل والنكسات على رفع اللوم عن النفس وإبراء الذمة عنها وإلقائها على متآمرين من وراء الستار، وهكذا تتحول “نظرية المؤامرة” من رؤيا سياسية لتفسير الاحداث الى مخدر ومثبط للعقول، وعقار للاسترخاء على وسادة العجز، باعتبار ان المؤامرة اكبر منّا.. ونحن صغار، لا حول لنا ولا قوة.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *