تقاطعت قراءتي لرواية ضحى عاصي «صباح 19 أغسطس» مع مشاهدة فيلم رومان بولانسكي «الكاتب الشبح». فكرة غير صائبة، لا أنصح بها أحدا، أن يشاهد فيلما أو يعيد مشاهدة فيلم مزعج، في أوقات الاسترخاء، فيقلق طمأنينة ينشدها، ويكاد يغلق أبواب الأمل في مصادفة للحياة في عالم أكثر أمانا وشفافية. فيلم تضيع فيه الحقيقة، ويتم التخلص من أي شبح يتوصل إليها. ورواية يتأخر فيها ظهور الحقيقة لبطلة يفاجئها الماضي الرومانسي متوحشا وداميا، وتعجز عن البوح. اجتمع الكابوسان، السينمائي والروائي، على خلفية مأساة اجتياح جيش بوتين لأوكرانيا، في 24 فبراير 2022. في الرواية يطل بوتين برأسه، منذ نهايات ما كان يسمى الاتحاد السوفيتي.
الرواية الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة بطلتها «كاملة الإسناوي»، أمها روسية وأبوها طالب بعثة مصري، رجع إلى بلاده تاركا الزوجة والطفلة لمصير يذكّر الجدة بحصار لينينجراد. في الحصار الذي استمر 872 يوما مات ابنها، خال البطلة، ضمن أكثر من مليون روسي، «وأكلنا الحيوانات النافقة حتى لا نموت جوعا». الحرب العالمية الثانية ليست وحدها سببا للمجاعة. في الثلاثينيات مجاعة قتلت الملايين، «حتى وصل الأمر بالناس إلى أنهم كانوا يأكلون أبناءهم، هي مجاعة دبرها ستالين لتركيع أوكرانيا وبلاروسيا وكازاخستان». تاريخ ألحّ جورباتشوف على إظهاره، مغازلة لجيل يدعم سياساته. ومن ذلك الجيل طالبا الطب كاملة، وزميلها «رسلان جاسانوف» الشاعر المغرم بالسينما والموسيقى
كاملة ورثت ملامح أبويها. وتخصصت في طب العيون، ورسلان في جراحة المخ والأعصاب، ولم يعد من الحرب، ولم يرَ ابنه «صادق». كان الناس يقفون ساعات في الطابور انتظارا للطعام. لاذوا بالسُّـكْر «حتى الموت»، وألفوا وجود جثث متجمدة بجوار الأرصفة، «يسكرون وينامون، فيتجمدون». والنساء دفعن كاملة من الطابور، ومعها ابنها الرضيع: «ارجعي إلى بلادك، كُلِي هناك». ولا يجدي استنكارها، فتلاحقها إحداهن: «أمها، أكيد واحدة من العاهرات اللاتي سلّمن أنفسهن للشحاذين الذين كنا نطعمهم ونعلّمهم». في الأزمة بحث الشعب الفقير عن الله، وقام الشيوعيون بانقلاب 21 أغسطس 1991. مأساة لخصها فصل عنوانه «المتشردة الروسية» في رواية العراقي سلام إبراهيم «الحياة.. لحظة»، 2010.
خرج الروس ليروا العالم، والجيل الجديد يحلم بارتداء الجينز. كاملة شملها التغيير، وبقي في نفسها شيء من الاتحاد السوفيتي. وبعد ثورة 25 يناير فكرت في العودة، لكن ابنها انخرط في ثورة تلعنها أمه، وتراها سبب فقدان وظيفتها كمديرة إقليمية لأكبر شركة سياحية روسية في الشرق الأوسط. عادت بعد خمسة عشر عاما، وأخبرتها زميلتها «إيلينا»، أستاذة الباثولوجي، بمآسي «التسعينيات الطائشة»، لو عاشها دستويفسكي وتشيخوف لكتبوا «روائع عن كل مواطن روسي عاش الحزن التسعيني». سألتها كاملة: هل ندمتم؟ فقالت: «سأجيبك بمقولة بوتين: لا يوجد إنسان عنده مشاعر لا يندم على انهيار الاتحاد السوفيتي، ولا يوجد إنسان عاقل يفكر في عودة الاتحاد السوفيتي.
في تلك الزيارة تأكد لها أن الدولة «التي تنتمي إليها» انتهت، وأن مجتمعها موجود في ذاكرتها فقط، فرجعت إلى مصر، لتتلقى عرضا من شركة تركية ذات أنشطة تشمل السياحة وغيرها. وقابلها المالك «مسعود يلماز»، وأربكتها نظراته الجريئة الواثقة. ارتابت، ثم أرسل إليها رسالة هي حدوتة شهيرة للأطفال، كان رسلان يغنيها لها، أيام الخطوبة. فصرخت لنفسها: «رسلان»، كيف عرف هذا التركي ما كان بينها وبين زوجها الذي قتل في أفغانستان؟ ولم يكن إلا رسلان. هلكت فرقته، وكاد يقتل لولا أن نطق الشهادة. عالجوه واكتشفوا من الختان أنه مسلم. علموه عن الإسلام ما يجهل، ولقنوه دروسا في الجهاد، وانتقل إلى «وطنه الشيشان».
حلُم رسلان بالخلافة، وحمل أسماء منها أبو حمزة الوليد، واتخذ من الشيشان قاعدة يدرب فيها متطوعين من عموم شعوب القوقاز. وأصابت عملياته قلب موسكو، ووضعته المخابرات الروسية في قائمة المطلوبين. وشارك في شبكة عنكبوتية فجرت قطارات إسبانيا وغيرها. وها هو حلم الخلافة على بعد خطوة: «حكمنا: تونس، مصر، المغرب، وتركيا، لم نعد نخشى الدول ولا الأنظمة، هم الذين يخشوننا بعد أربكناهم في كل مكان: أمريكا، فرنسا، إنجلترا، نؤرقهم بعد أن أصبح لنا على كل أرض وفي كل دولة رعايا… وعندنا نفوذ وأموال وسلطان لا يملكه أحد». لم يصارحها بهذه التفاصيل، وأمطرها بكلمات تمسّ قلبها، فقالت: «ما زلتَ تكتب شعرا جميلا “
فرحت باستعادته حبيبا، مهما يصمت، أو ينشغل بسفر. لكن عشرته أصابتها بالجنون، خلال عشرة أيام. يصحو ويكاد يخنقها، ثم يطلب السماح: «كنت نائما». كأنها نوبات صرع تنتهي بتناول أدوية. واستمرت نوبات الجفاء، وإصدار الأوامر الحاسمة، وإحراقه صور زفافهما، وصور ابنهما صادق في طفولته. وطلب أن تقدمه إلى ابنه كزوج لا أب؛ فلا يكتشف أحد أن رسلان هو مسعود التركي. ونهاها عن مغادرة البيت، والاتصال بأي أحد، وفتح النوافذ. وكان أحد معارفه يرسل إليهما الطعام. أصبحت حبيسة مع مريض نفسيا، «يستعبدها في بيتها، ويستعبد عواطفها فلا تجرؤ أن تفلت»، وجوده معها يعني الرعب، فكانت تنام في غرفة ابنها المسافر، وتغلق الباب.
خافت البقاء بالقرب من الرجل المرعب، وتحصنت بغرفة صادق الذي يكاد يرجع من سفر. ثم سمعت طرقات أفزعتها. جاء ابنها بالبشرى: «عزلوا الإخوان». كانت معزولة، ترتعد من حركة الستارة، وقد اختفى الرجل. وفي موسكو سألها صادق ضاحكا: «متأكدة أن أبي قد مات في أفغانستان؟». كان يتابع في التلفزيون خبرا من سوريا، عن مصرع «أبو حمزة الشيشاني» الرجل الثاني في تنظيم المجاهدين. أخفت انفعالها بالتشاغل في المطبخ. وأتبع: اسمه الحقيقي رسلان جاسانوف، وحارب في أفغانستان، ووجهه إذا «تخيلته من خمسة وعشرين عاما تجدين فيه بعض الشبه من أبي». صمتت، وكان عليهما الخروج؛ للمشاركة في مسيرة مليونية سنوية احتفالا بالنصر على النازية.
تنتهي الرواية ويبدأ سؤال مهم عن تحوّل الشاعر والفنان إلى قاتل. كان عبد الملك بن مروان عابدا تقيا، وانتهى باستئناس الدم، بادئا بعبد الله بن الزبير. الدين لا يردع، ومن الرومانسية الاعتقاد بأن الفن يمنع القسوة. كان إيفاريست جاميلان، بطل رواية أناتول فرانس «الآلهة عطشى»، رساما بريئا فقيرا، منحته الثورة الفرنسية فرصة عمل محلّفا لقاء ثمانية عشر فرنكا يوميا، تؤمّن له ولأمه الطعام كل يوم. وأوغل في الدم، واتهم أبرياء يعرفهم، واستمتع بإرسالهم إلى المقصلة. والمثال الأقرب إلينا سيد قطب. حققت ثورة يوليو 1952 أمانيه في كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام». وقد حرّض على إعدام شابين شاركا في احتجاج عمالي.
كتب في صحيفة «الأخبار»، 15 أغسطس 1952، تحت عنوان «حركات لا تخيفنا»: «لقد كسبنا المعركة من غير شك وكان أمر الله مفعولا… لقد أطلع الشيطان قرنيه. فلنضرب. لنضرب بقوة. ولنضرب بسرعة، أما الشعب فعليه أن يحفر القبر وأن يهيل التراب». وفاتته غنائم الثورة؛ فانقلب عليها وعاداها، ولم يعد يهمه تحقيقها عدالة نادى بها. وقاد الدعوة إلى الدم. كتب سليمان فياض أنه قابله، وسأله عن سبب انضمامه إلى الإخوان، فأجاب: «في الناس وحوش، ولا يوقف وحشيتهم بالوجدان سوى الدين، ولا يجرئ الضعفاء عليهم سوى الدين». وأُعدم ومات معه، إلى حين، سرّ التحوّل بعد سفره إلى أمريكا، وإعلانه هناك اعتزال بالنقد الأدبي.
أسرار قطب، ورسلان، ورئيس الوزراء البريطاني السابق في فيلم بولانسكي «الكاتب الشبح»، تقول إننا في عالم ملغز، بأسراره الممنوعة. وعلى المجازف بمعرفتها احتمال العواقب. في الفيلم يغرق كاتب مذكرات رئيس الوزراء في ظروف غامضة. ويعرف الكاتب الشبح الجديد حقيقة ضلوع الرجل في عدة جرائم، ويفاجأ بعلاقة زوجة الرجل بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية؛ فتقتله سيارة فورا، وتتناثر الحقيقة. الأسرار يحتويها جدار شاهق، لا يراها الواقف أسفله أو أعلاه. وسيلة المعرفة هي إلقاء النفس من أعلى، والتغلب على الخوف بالنظر إلى السر المدوّن على الجدار. معرفة تقترن بالموت. تموت بموت العارف. حتى العارفون بالله تنطوي «أحوالهم» على غموض لا يعلمه إلا الله.