عندما كنا طلابا في مرحلة الدراسة الأولية قبل أكثر من أربعة عقود دعتني زميلتي لتناول كوبا من الكابتشينو في النادي الطلابي ، يومها لم تكن الكابتشينو منتشرة في العراق كما هي الحال الآن ، ولم أكن أعرفها ، فلا يمكن لفلاح مثلي قادم للعاصمة من قرية نائية ومازال الطين عالقا بثيابه أن يعرف الكابتشينو ، كل ما يعرفه انه جاء للدراسة في قسم الاعلام ليس ليكون صحفيا ، بل لنشر نتاجاته الأدبية بالعمل في مؤسسة اعلامية ، ولكن الأقدار شاءت أن يسحره الاعلام ويلفه بعباءته التي تشبه عباءة الكاتب الروسي غوغول التي لفت الكثير من الأدباء  ، وغادر الأدب شعرا وقصة ونقدا وأكتفي بتذوقه ، اذ وجد هويته في الاعلام وتحديدا في البحث العلمي الاعلامي .كنت متشوقا جدا لرؤية الكابتشينو ، اسم مغري لشراب لم أره او أتذوقه من قبل ، لكني أستحي افشاء عدم معرفتي أمام زميلتي التي أريد لصورتي أن تكون بهية في ذهنها ، وامسح صورة القروي الذي اعتاد أشياء تجعله محل تندر أبناء المدن ، كنا نحن أبناء القرى الذين تمكنا ببسالة أن نشق وسط الأحراش والأطيان والدروب الترابية طريقنا نحو العاصمة خجولين بطبعنا ، يتعذر علينا النظر الى وجوه زميلاتنا عندما يتكلمن معنا ، وغالبا ما فشلت جميع محاولاتنا في أن نكون أكثر جراءة كما زملاؤنا من أبناء المدن ، وربما لولا الفضول لمعرفة الكابتشينو لما قبلت دعوة زميلتي ، وهي المرة الوحيدة التي أقبل دعوة زميلة من دون تردد .بعد دقائق جاء العامل بصينية فيها كوبان من الكابتشينو ، وما أن أخذت رشفة منه حتى قهقهت بداخلي ، وحاولت ألا تظهر علامات السخرية على ملامحي ، وحال نفسي يقول : ( هكذا نفطر صباح كل يوم ) ، شراب تقليدي يتناوله أبناء القرى قبل التوجه للعمل في حقولهم ، لكون الحليب مادة غذائية مهمة ، واذا ما أضيف له القليل من الزبد يمنح الشخص مدة أطول من الشبع ، فضلا عن طاقة اضافية تعينه على تحمل عمله الشاق بطبيعته . حاولت التغطية على صدمة الكابتشينو بالحديث عن طموحنا بالعمل في واحدة من وسائلنا الاعلامية التي كان دخولها ليس سهلا أبدا .نحن الآباء الذين صرنا في نظر الأبناء الآن ( دقة قديمة ) كما يقول اخواننا المصريين ، ويعيبون علينا عند الدخول الى مطاعم المناطق الراقية عدم معرفتنا بالأكلات التي تضمها قائمة المأكولات ( المينيو ) التي يعرضها علينا العاملون في تلك المطاعم ، فكثيرا ما نقع ضحية أكلات لا تتوافق مع أذواقنا ، لذلك من دون أن نتصفح القائمة ، نسأل الكابتن كما يسمونه حاليا عن توفر أكلاتنا التقليدية ، رغم معرفتنا انها لا يمكن أن ترقى الى مستوى الطعام المنزلي الا ما ندر ، والمطاعم التي تلقى رواجنا كبيرا من عوائلنا تلك التي تقدم طعاما تقليديا ، ولم أجد تفسيرا لتناول الشباب طعاما أجنبيا سوى ان ذائقتهم تختلف عن ذائقتنا ، او انهم يمارسون سلوكا مظهريا كما يسميه الاقتصاديون ، وبعض شبابنا تعجبه التسميات الأجنبية ، لكن قسما من هذه الأكلات تقليدية جدا ومعتادة في موائدنا اليومية ، ولا تختلف عنها سوى بإضافة مادة غذائية غريبة على مكوناتها  ، وكثيرا ما تكون غير منطقية  .  وهذا ما حدث في الدعوة الأخيرة التي لفتني فيها طلب أحدى الفتيات سلطة ( سيزر ) ، فتذكرت حادثة الكابتشينو ، ما جعلني أترقب وصول الطلب بفارغ الصبر ، وبعد وصوله لم أجد شيئا غريبا في المائدة ، ما اضطرني للسؤال عن سلطة السيزر المنتظرة ، فانبرت الفتاة للإجابة على سؤالي : السلطة في الصحن الذي قبالتك . تناولت ملعقتين منها ، فلم أتبين طعما او نكهة مختلفة ،  فسألت من دون الخجل الشبابي هذه المرة : وبماذا تختلف عن سلطتنا التقليدية ، فالمكونات الرئيسية هي نفسها الطماطة والخس والفلفل ، فقالت الفتاة : اضيف لها صدر الدجاج . ومنذ ذلك الحين صرت اطلق كلمة ( السيزرية )على الشباب الذين يخلبهم بريق المطاعم أكثر من طعم أكلاتها.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *