ما للواقع للواقع ، وما للمتخيل للمتخيل .
عبر هذا الوعي تُسْتحدث صور في المخيلة ، وينتقل الإنسان ، بموجبها ، من كائن عقلي إلى كائن أدبي ومن جسد الوعي إلى اللاوعي ؛ ناجم عن حلم ، و ناشد للحرية . إن جلبير ديران كان من رعيل الفلاسفة الفرنسيين ، الذين انتشلوا المتخيل من هسيس النسيان ، ودرسوه في إطار علم الأفكار ، مثله مثل لحظات الوعي واللاوعي ، التي تنتاب الإنسان في اليقظة والحلم . ليطل ديران على عالم الأنثروبولوجيا ، في بنائها المعرفي والثقافي ، من شرفة فرويدية و يونغية نسبة إلى سيغموند فرويد و يونغ . وفي ذات الإطار ، فالإبداع ما هو إلا سفر كوسموسي بين – داخلي . وفيه تنتابُ المبدعَ لحظاتٌ يتم قضمها قسرا من واقع بلغة مباشرة ، لا تقبل انزياحا ، ولا يُستساغ لها تأويل ولا تفسير . فالمتخيل تلك المنطقة المظلمة ، كعلبة سوداء ، التي تلج إليها هذه المحطات الشاردة ، بما هي مرحب بها في عالم الرمز والحلم و الأسطورة والتاريخ ، كما أقر ذلك بول ريكور عندما ربط الأيقونة السيميائية بالمتخيل الاجتماعي . فكثيرة هي النصوص القصصية و الروائية التي تلهج بالرفض ، و الانتقاد الحاد للواقع عبر وعي مرتبط بالعقل ، وهذا جسر يتم عبره الوصول إلى حوض دلالي يسبح فيه المتخيل ، بما هو يقابل لحظات اللاوعي و اللاشعور والحلم و التذكر والاستذكار المنفلت من عقال الإحساس . لذلك جاء المتخيل ، مع جلبير ديران وماسي إلياد ، مخالفا لمزاعم فلاسفة الأنوار ، الذين يعتبرونه سيد الخطأ والضلال و اللايقين والشك . فالمخيلة ، من هذا المنظور ، ليست مرتبطة فقط بما هو غائب في الذاكرة وتائه في شعابها ، أو بما هو متوار في الإشارات والرموز، حيث تتجمع صور وإيحاءات ، وإنما الوعي هو أيضا شديد الارتباط بطرفه الآخر ؛ اللاوعي ، وما يصاحبه من تمثلات وأيقونات . فالمنطق الرياضياتي ، كعلم ، بحاجة ماسة إلى المخيلة ؛ لاستكمال دليله الحجاجي والاستدلالي .
صور بيانية
في حين نجد أن الفيزياء ، هي أيضا ، لامندوحة لها من ابتكار صور بيانية، تقرب الظواهر الفيزيائية عند الدراسة والتمحيص ، خصوصا عند نقلها – أي الظواهر الفيزيائية – من المعرفة العالمة إلى المعرفة المدرسية . إن إقصاء الرمز من الوعي جاء نتيجة أبحاث روني ديكارت في القرن السابع عشر ، والتي ترى أن المتخيل منبعُ الخطأ ، فكانت بذلك الضربة الأولى الموجعة التي تلقاها الرمز ، كوسيط تعبيري يلتجئ إليه الإنسان للبوح التقريري ، والإفصاح القريب من العقل والفلسفة ، والبعيد عن الرمز والصور البيانية . و في سبيل ذلك ، كان لزاما على جلبير ديران أن يستفيض في دراسة هذا الوعي ، الذي شكل الحد الفاصل بين العقل والمتخيل . فمن بين النتائج التي توصل إليها ، هذا الباحث ، هي التمثيل المباشر للأشياء ؛ حيث جعل للغائب منها صورا ، و للماثل حضورا ماديا . وانتقالا إلى عالم اللغة ، نجد أن التقابل حاصل بين ما هو عقلي و ما هو تخييلي ، فضلا عن أنه يتجسد في الأسلوب التقريري المباشر الخالي من الانزياح ، حيث لم تدمر فيه الأنساق اللغوية ، علاوة عن مخاطبته للبنية العقلية ، من خلال لغة تقريرية خالية من البيان البلاغي . ولعل تمهيدا لما سطره الإبداع يجئ النصُ حمَّال تأويلات ، من خلال الذاتية التي تفرض على النص فرضا ، لتتشعب سموته ، ويتيه في يم من القراءات . فحيثما وجد الخيال و التخييل وجدت صور ؛ لأن الإنسان يميل إلى عالم المشاهدة والإيقاع ، أكثر من ميله إلى عالم الأفكار . ولعل التداخل الحاصل بين العقل و المتخيل لا يقف عند النصوص الإبداعية فحسب ، بل يتعدى ذلك ليصل إلى ما يثير رغبة الإنصات والمشاهدة معا عند الأطفال خصوصا ، فالمسلسلات الكارتونية التي تستهوي الأطفال يمزجون فيها بين الواقعي والمتخيل ، أو بالأحرى بين ماهو مادي حضوري ، و بين ما هو رمزي- تأويلي . فالشخصية الكارتونية ، من هذا الموقع ، تصبح وجهين لعملة واحدة ؛ فثارة توظف توظيفا حقيقيا ، وثارة تستعمل استعمالا استعاريا -لاواعيا . فخروف المزرعة ، مثلا ، يصور على أنه تائه في براري الحضيرة ، يقضم العشب . وهذا المشهد يعتبر خطابا مباشرا لا يحتمل التأويل ، بينما إذا تلذذ الخروف مذاق الأشنة ، و انتشى طعمها ورقص في غياضها بإشارات دالة ؛ فإن المشهد انتقل من حوض الوعي إلى حوض اللاوعي ، و من خطاب العقل إلى خطاب المتخيل ، سيفرض لامحالة على الطفل أن يؤول المشهد ، بحثا عن معنى ثاو في المتخيل . أخيرا ، وما يمكن تسطيره ، هو أن هذا الانتقال من الوعي المتمثل في الحضور الذاتي المباشر ، إلى عالم اللاوعي المتجسدن في الصور و الخيال و المتخيل ، ما هو إلا بحث عن توازن نفسي و عاطفي قد يكون مفقودا ، أو بالأحرى ما هو إلا تواصل بين – ذاتي يلجأ إليه الإنسان ليعير عن قضاياه ، التي تشغله في حياته اليومية . وبالتالي فالتعبير هو السبيل الأوحد لمعانقة الحرية التي ينشدها ، ويدافع عنها .