للغربة مخالب وأنياب ؛ ولها كذلك جنودها المدججون بالقسوة والمجردون من الشفقة ..فحين تنفينا الأوطان _ قبل أن نهجرها _ تنهشنا هذه الغربة بأسلحتها وسمومها وجنودها..
البطلة هنا صمدت وغرست جذورها في أعماق التربة : أملا وازدهارا وخلودا وشذى..
غريبة
تعصف الرياح عاتيةً في يوم ٍعسير .
يتخلخل، يُقْلَعُ، يتطاير، ولا يقاوم كل متشبثٍ متغلغل ٍمتمسكٍ أصيل .
هوجاء تلك العاصفة بلا رحمةٍ تحمل غبارها الأحمر تقصف به ، فلا وجوهٌ نضرة فقد فارقها السرور، لا ثباتٌ فهي تقلع الجذور، لا ردعٌ، لا صدٌ، لا قبول ٌ .
سرعان ما تَجَبَّرَتْ فوق كل صرحٍ مهيبٍ ظنَّ أنَّهُ قويٌ شديدٌ .
زادت في جهدها تدمر في البكرة والأصيل .
قسوتها أبشع من شمسٍ وزمهريرٍ.
أَمَا من غدقٍ يٌجِيٌرُنا ؟! بثلجٍ ، مطرٍ ، أوبَرَدٍ .
لا أمل لا سبيل ، إنَّهُ يومٌ غير يسير، فقد نالت ودمرت الأخضر واليابس .
استسلامٌ أمام جبروتها بقمعٍ وصمتٍ مرير .
بذرة خصبةٌ من نبتةٍ أصيلة لا تطفل ولا هجين فيها ، ترقد خاملةً في حضن تراب وطنها ليحميها واعدة له بأنها ستنبت وتزهر وتعيد بهجة خلوده وديمومته .
شيطانية الرياح تقلب التراب لتنثره رذاذاً يعمي البصيرة ويضيع الطريق .
تبحث قاصدةً عن كل أصيلٍ ثمين ٍ،فنالت تلك البذرة فأخذت تطيرها ، تتقاذفها، تُبْعِدُها، تعلو بها حيناً وتُوْطِئها حيناً، من أرضٍ لأرضٍ تُبْعِدُها وتُزيد .
ما ودعت رفيقاً ولانسلاً ولا تراباً في دارها الجريح .
تخزن قوتها بإرادة الصنديد، عظيمةٌ بأصرارٍ ووعيد لتنمو وتزهر وتعيد ذاك المجد التليد .
تغرس في تربةٍ بعد عنف التقاذف المرير، لم تُدْفِئُها كذاك التراب من البرد الشديد.
ترضخ فلا خيار ولابديل.
خائفة ٌ، سابتةٌ، مستوحشةٌ، تشعر بغرابة كل شيءٍ ولكنها تحافظ على حيويتها، تنتظر سبيلاً لتتحفز، وتنمو، وتؤسس في تلك التربة المفروضة عليها لتديم وجودها .
ها هو غدق المياه يسقيها بعدعطش ذاك الترحال، ولكنه ليس بعذبٍ كماء الأوطانِ حتى وإن خلا من المرارة، الملوحة والعسرة ، تمتصه بمضغٍ فهو سبيلها للأنبثاق .
دِفءٌ وحرارةٌ تكوي جوانبها فتزيدها اقبالاً للحياة .
تتنفس ذلك الهواء الملوث بدخان الأحقاد .
فتتشقق قشرتها لترسل بجذرٍ متحدٍ لعناد تلك التربة، يشق طريقه بأعماقها بنحافته المستمدة قوتها من اصالة واصرار بذرته، لينشطر، يتفرع، يتشعب فيها بكل جدارةٍ معلناً نفوذه وسيطرته عليها .
يتغذى منها بطعام ذي غصةٍ، يقوى ويمتد ويدعم تلك البذرة الصامدة لتطلق مابقي فيها من قوة واصرارٍ لترسل تلك السويقة متجهةً بشموخٍ لتعلو وتعلن قدومها وبدء الحياة متحديةً من حاول قمعها .
تنمو، تكبر، وتزهو بجمالٍ ذي ميزةٍ عما حولها، تتمايل خجلاً بشموخ النادرة الفريدة.
منافسة غادرة تزاحمها في المكان، السقي، الغذاء حتى تنفسها بغيرة المتطلع العاجز عن الوصول لسمو ندرتها .
تخنقها بذاءة المتطفلين الملتفين حولها ،فتصدر القوة لتحطم قيدهم ، لتواصل ذاك العهد لترابها بتمجده .
يحوم حولها الفلاح وهو ليس كفلاحي وطنها كل حين واخر مخيفها بذاك المنجل ،فيرعى غيرها ويلقيها بنظرة ثاقبة مستفهمة .
ولكنها تكبر، تحلو، لتزهر، جاذبةٍ اليها الانظار بجمال وندرة أزهارها، فتسمو لتطرح ثمارها ليعشق أكلها من تذوقها فينثر ما بداخلها من بذور هنا وهناك وغيره يقتنيها ككنز نادرٍ في عالمه .
يعود ذلك الفلاح بمنجله محاولاً تخفيف زروع تلك الحديقة ، فينظر لها بنظرة الجاهل الحاقد ويقترب منها وهي شامخة لينالها بغدر ذلك المنجل المسموم، تنظر إليه تلفظ أنفاسها الاخيرة لتقول له بشموخ : ما فاجأتني أيها السم الحاقد ، ولكني أكملت عهدي لترابي وقد غرست جذوري بعمقٍ وستنمو وتطرح ثانيةً، ونُثِرَتْ بذوري الأصيلة لتطرح في كل الأفق فحقدك لن يبيدني .
وسآلت عصارتها الزكية كدم شهيدٍ يروي ثراه وتمايلت فوق ذاك الثرى مودعةً معلنةً خلود مجدها .