ما هو الدين ؟ ومن اين نشأ ؟
لو جمعت الاجابات التي كتبت عن هذين السؤالين ووضعتها في باخرة لغرقت!. والاشكالية الاعقد انك لو قراتها كلها لما وصلت الى تعريف او مفهوم للدين ، ولما ارحت دماغك بالوصول الى مصدر نشأته فتخلص الى نتيجة ، ان الفلاسفة والعلماء بتنوع اختصاصاتهم قد استعصى عليهم الاتفاق على تعريف محدد للدين ،و ما اذا كان قد نشأ من عقل الحيوان البشري ام من قوة مجهولة،، وما اذا كانت قد خلقت الكون قوة تتجاوز نفسها يدعوها بعضنا الله.. تواصل اهتمامها وعنايتها بما خلقته. ولماذا يقدم كل دين نسخته الخاصة به عن هذه القوة المدعوة الله ،وعما تريده منا ، وماذا سيحدث للناس بعد موتهم ما اذا كانوا سيتحلون الى رماد وينتهون أو انهم الى عالم آخرسيبعثون؟!
سنبدأ هذه الحلقة في موقف علم النفس من الدين بأشهر أربعة في موقفين متضادين.
علماء النفس والدين
كانت العلاقة بين علم النفس والدين في النصف الاول من القرن العشرين ضعيفة ومرتبكة وفيها اشكالية خلاصتها ان عالم النفس لا ينظر للدين باهتمام وجدية،وان المتدين لا يعتبر علم النفس علما، ما يعني ان علم النفس والدين لا يمكن التوفيق بينهما،وانه من المستحيل ان يكون هناك علم بأسم علم نفس الدين. وبقي هذا الحال الى سبعينيات القرن الماضي،ففيه بدأت ( المصالحة) وظهرت مقالات ومنشورات توظف علم النفس في تحليل موضوعات دينية، تطورت الى محاولات طموحة بينها ظهور كتاب في 1988 بعنوان علم نفس المعرفة الدينية لـ(واتس و ويليمز Watts&Wplliams ) ليشهد عقد التسعينيات الاعتراف علميا بعلم النفس الديني.
علماء النفس
سنبدأ بايجاز مواقف فريقين متضادين من اشهر علماء النفس والاجتماع،نطرحها بموضوعية وحيادية، أي أن دورنا هو الناقل لوجهة النظر وليس الناقد لها..ونبدأها ب(شيخ) النفسانيين، سيجموند فرويد.
1.سيجموند فرويد.
بدأت تأملات فرويد الأولى حول الدين من أوجه التشابه بين الأعراض العصابية والممارسات الدينية،وتتدرج في ايضاح رأيه بالدين عبر عدد من مؤلفاته،بدأ اهمها بالطوطم والتابو(1913)،ومستقبل وهم، وخلل في الحضارة، وانتهى بموسى والتوحيد(1937)،وصف الدين فيها بانه «عصاب قهري عام». واعلن ان التحليل النفسي كان آخر من تصدّى بالنقد للنظرة الدينية للكون،بأن ردّ اصل الدين الى عجز الطفولة وقلة حيلتها، و ردّ مضمونه الى بقاء رغبات الطفولة وحاجاتها حتى سن النضج. موضحّا بأنه لا يتضمن على التحديد دحض الدين،لكنه ضروري لمعلوماتنا عنه،واننا (فرويد) لانتناقض مع الدين الا حين يدّعي انه ذو اصل الهي.
وعن اصل نشوء الدين يجيب فرويد بأنه اكتشف مبدأ « القدرة المطلقة للافكار « الذي يوجد بدوره في اساس السحر،وأنه مضى في نشوء الكون بمقارنته نقطة فنقطة بعصاب الوسواس القهري،وبيّن ان كثيرا» من مسلمات الحياة النفسية البدائية لا تزال فعّالة لذلك الاضطراب الغريب.
تفكير مرغوب
والواقع ان نظريات التحليل النفسي تفسر الدين بدلالة (وهم ) ناجم عن تفكير مرغوب فيه يشكل بديلا لشخص الأب،وتصف الدين بأنه علاقة وهمية تتوسط بين العالم النفسي الداخلي للانسان وبين العالم الخارجي الذي يعيش فيه،ناجمة عن عمليات اسقاطية.واوضح في كتابه « مستقبل وهم « ان الدين ينبع من عجز الانسان في مواجهة قوى الطبيعة بالخارج والقوى الغريزية داخل نفسه.مع التوضيح بأن وصفه للدين بانه (وهم) لا يعني القول بأنها خاطئة بل يعني انها تخضع لمنطق الرغبة وليس منطق الحقيقة، تماما مثل وهم سكرتيرة بعمر عشرين سنة..تحلم بانها ستتزوج مديرها ذي الستين عاما.
ولقد ذهب فرويد الى ابعد من وصفه للدين بأنه « وهم « بقوله ان الدين « خطر « لأنه يميل الى تقديس مؤسسات انسانية سيئة تحالف معها على مر التاريخ. فضلا» عن ان ما يقوم به الدين، يضيف، من تعليم الناس الاعتقاد في وهم وتحريم التفكير النقدي بأن يجعله مسؤلا» عما اصاب العقل من فقر. ومع أن فرويد وصف الدين بأنه حالة سيكولوجية لقضية وهمية،فأنه لم يسفّه العقائد الدينية ولم يقل عنها انها كاذبة.
- فروم
يعرّف فروم الدين بأنه(أي مذهب للفكر والعمل تشترك به جماعة ما،ويعطي للفرد اطارا للتوجيه وموضوعا للعبادة ). ويرى أن الدين على أنواع، فهنالك أديان توحيدية وأخرى متعددة الالهة، غير أنه يركز في نوعين يطلق عليهما:الأديان الانسانية humanistic والأديان التسلطيةauthoritarian .
ويقصد بالنوع الأول ألاديان التي يأتي بها أشخاص مثل بوذا، الذي يعدّه معلما عظيما ويصفه « بالمستنير « الذي أدرك حقيقة الوجود الانساني وتحدث باسم العقل وليس باسم قوة فائقة على الطبيعة. أما الأديان التسلطية ( يقصد السماوية ) فان العنصر الجوهري فيها هو الاستسلام لقوة تعلو على الأنسان،والطاعة فيه هي الفضيلة الأساسية والعصيان هو الخطيئة الكبرى. وكما تصور هذه الأديان ( التسلطية ) أن الاله قوي شامل القدرة ومحيط علما بكل شيء، فانها تصور الانسان بالمقابل على أنه عاجز، تافه الشأن، ولا يشعر بالقوة الا بمقدار ما يكتسب من فضل الاله ومعونته عن طريق الاستسلام التام. فالاله في الدين التسلطي رمز للقوة والجبروت،وهو الأعلى لأن له القوة الأعلى،والانسان الى جواره لا حول له ولا قوة،على حد تعبير فروم.
وينّبه فروم الى أن الدين التسلطي العلماني ( أو الدنيوي ) يتبع هذا المبدأ نفسه. فهنا يصبح الفوهرر أو « ابو الشعب « المحبوب،أو الدولة،أو الوطن الاشتراكي..موضوعا للعبادة،وتصبح حياة الفرد تافهة، وتتألف قيمة الانسان من انكاره لقيمته وقوته.غير أن فروم يفضل ما يسميه الدين الانساني على الدين التسلطي،لأن هدف الانسان في الدين الانساني هو أن يحقق أكبر قدرة من القوة،لا أكبر قدر من العجز، والفضيلة هي تحقيق الذات لا الطاعة،والايمان هو يقين الاقتناع المؤسس على تجربة المرء في مجال الفكر والشعور لا على تصديق قضايا وفقا لذمة المتقدم بها. والمزاج السائد فيها هو الفرح، فيما المزاج السائد في الدين التسلطي هو الحزن والشعور بالذنب،يضيف فروم.
3.يونج
اذا كان فرويد ( ضد أو عدو )الدين فان يونج ( مع أو صديق ) الدين. ولهذا السبب فقد دعمته الكنيسة، ليس فقط لأنه مع الدين بل لأنه انشق على فرويد واختلف معه في طروحاته بخصوص الجنس وعقدة أوديب واللاشعور والدين. فالقاريء لنظرية فرويد يستنتج منها أن الانسان هو الذي خلق الدين فيما يستنتج من نظرية يونج أن الدين بنظامه الأخلاقي هو الذي خلق الانسان.
ولقد بدأ اهتمام يونج بالدين بعد أن انفصل عن فرويد وتخلص من سلطته عليه،وتأسيسه مدرسة أو منهجا أسماه (علم النفس التحليلي)،فتوجه نحو دراسة الأساطير والرموز القديمة والطقوس وعادات الشعوب البدائية والاحلام وامراض العصابيين وهلوسات الذهانيين..وخلص الى نتيبحة عدّ فيها شخصية الفرد نتاجا ووعاء يحتوي تاريخ اسلافه. ورأى أن الأساطير والتقاليد القديمة والرموز والأفكار المجردة تنتقل من جيل لآخر عبر مفهوم أطلق عليه مصطلح اللاشعور الجمعي Collective Unconscious الذي يعدّه مخزن آثار الذكريات الكامنه التي ورثها الانسان عن ماضي أسلافه،وأن الدين هو من بين الأمور التي يحتويها هذا اللاشعور الجمعي الانساني بصورة طبيعية بوصفه مسألة فطرية،ويستنتج: بما أن الدين أقرته المجتمعات عبر تاريخها الطويل،وما تزال، اذن فهو حقيقة موضوعية.
ويعرّف التجربة الدينية بانها شيء تسيطر عليه قوة خارجة عنّا،وأنها تتسم بضرب خاص من الخبرة العاطفية هي الخضوع لقوة أعل.ويرى ان انعدام الشعور الديني يسبب كثيرا من مشاعر القلق والخوف من المستقبل والشعور بعدم الامان والنزوع نحو الرغبات الغريزية.
فرانكل
لموقف فرانكل الايجابي من الدين واقعة في منتهى القسوة. فهو طبيب نفسي نمساوي أمضى خلال الحرب العالمية الثانية ثلاث سنوات في أحد المعسكرات النازية.وكان والده وأخوه وزوجته قد لقوا حتفهم في معسكرات الموت. وعن هذه التجربة القاسية والمرعبة أصدر عام 1959كتابا بعنوان ( من معسكر الموت الى الوجودية )أعاد طبعه عام 1963 بعنوان ( الانسان يبحث عن المعنى ) وصف فيه الاذلال والمهانة والرعب والتعذيب التي عاشها في السجن،وشرح كيف استطاع هو وآخرون أن يعيشوا نفسيا في ظروف معسكر الموت.واستنتج بأنه استطاع أن يحافظ على توازنه الانفعالي لكونه نجح في ايجاد معنى لمعاناته المريرة التي ربطها بحياته الروحية،وأن روحه هي التي أعطته الحرية لتجاوز ظروف..الابادة فيها متوقعة كل ساعة.
والذي جعل فرانكل يتحول من منهجه الفرويدي الى منهج روحي وجودي هو أنه لاحظ أن السجناء الذين كانوا معه في معسكر الاعتقال كانوا على نوعين،الأول:شحبت وجوههم و هزلت أجسامهم وصاروا جلدا على عظم، والثاني:صمدوا وظلوا في صحة جسمية ونفسية أفضل..وتبين ل، بعد دراستهم، أن الصنف الأول فقدوا الأمل في الخلاص وصاروا كالمحكوم بالاعدام الذي ينتظر لحظة التنفيذ، فيما النوع الثاني كان لديهم ايمان ديني او روحي منحهم القدرة على تحمل المعاناة والتعلق بالحياة.
ويعتقد فرانكل ان الامراض النفسية وبخاصة الكبت تنشأ حين لا يكون للفرد غرض او هدف في العيش او الحياة،وأن الانسان يكون أكثر مقاومة للمرض النفسي وأسرع تعافيا منه اذا كان في حياته معنى يشكل له هدفا وغاية،وأن الايمان من أهم المعاني التي تمنح لحياة الانسان معنى وجدوى،ويكون لوجوده أهمية ومغزى،اوصلته الى ابتكار طريقة جديدة في العلاج النفسي أسماها ( العلاج بالمعنى Logo Therapy)
،يوظّف فيها الأفكار والنصوص الدينية التي يعتقد بها المريض في تصحيح ما لديه من أفكار مرضية أو مغلوطة.وابتكر نوعا جديدا من العصاب أسماه (عصاب اللامعنى أو الفراغ الوجودي) حدد أهم أعراضه بالشعور بالملل والتعاسة والفراغ الداخلي وعدم الرضا والاحساس بأن الحياة لا لون ولا طعم لها بالرغم من أنه لا يوجد سبب واضح لهذه الأعراض.ويعزو فرانكل أسباب العزلة والاغتراب الى فشل صاحب المعاناة في أن يجد معنى واحساسا بالمسؤولية ازاء وجوده. وبهذه الانجازات فقد عدّته مجلة تايم الأمريكية بأنه يمثل المدرسة النمساوية الثالثة في العلاج النفسي بعد فرويد وأدلر.
ونوضّح،من جانبنا،أن في الفلسفة الوجودية فريقين من الوجوديين،الأول:وجوديون مؤمنون،ويمثلهم جابريل مارسيل وكارل يسبرز من الفلاسفة،وفرانكل من علماء الطب النفسي.والثاني: وجوديون ملحدون ، ويمثلهم هايدجر وسارتر من الفلاسفة، ورولو مي من علماء النفس.
ويرى الفريق الأول ( المؤمنون ) أن للانسان طبيعة بشرية خلقه الله بمقتضاها،ثم بعد ذلك يختلف الناس ويتباينون، فيما ينكر الفريق الثاني ( الملحدون ) أن للانسان شيئا أسمه الطبيعة البشرية،لأنه لا يوجد الربّ الذي تمثل وجود هذه الطبيعة..كما يرون.
مؤكد انك ستتساءل عن موقفنا نحن من الدين..ولك ان تجده في كتابنا ( الدين والسلطة)..وقد نوجزه في مقالة قادمة..مع تساؤل لك: مع ايهم انت من هؤلاء الأربعة في موقفهم من الدين؟