تنعكس النيران على عينيه، يقفُّ متشفيًا برائحة حرق الأجساد، يرى النار تأكلها وتغير بلونها حتى تعتطب، لا تهمه أصوات الألم والتوسلات. هو هتلر، صاحب التسعة أعوام يستمتع بحرق قطط الحي، يبدأ بجمعها منذ الصباح وحتى المساء، يُدير عليها البنزين ويُشعلها بعود ثقاب يسرقه من مطبخ أمه.

– ولك حسون…
– اسمي هو هتلر، أنا أحرق القطط اليهودية التي تُسبب السحر لنا، كم مرة عليّ أن أنبهك لأسمي؟
– حسنًا يا هتلر، إن أبيك آتٍ يحملُ خيزرانةً ليوسعك ضربًا، اترك القطط واهرب، أنت لا تريد أن تُكسر يدك كالمرة الفائتة!
لطالما كان حسون هتلر مؤمنًا بما يقوم بهِ من حرق لقطط الحي، يعتقد انها فكرة مُقدسة يجب أن يبقى متمسكًا بها ولا يذود عنها مقدار ذرة مهما ضُرِبَ من قِبل أبيه المُتعصب. لديه طقوسه الخاصة ومبرراته التي لقّنتها إياه العجوز أُم نضال، تلك العجوز المنبوذة بالعلن بسبب ممارستها السحر والمُتجمّع حولها نساء الحي بالسر والخفاء. فمنذ أن رفض أب حسون هتلر أن يقتني حسون قطة بداعي أنها تجلب الشؤم والنجاسة لبيتهم، اقتنع حسون بهذه الفكرة وتحوّل من طفلٍ يتودد للقطط الى مُستبد مريض يصب جام حقده وغضبه عليهنَّ. (أن القطط نجسة يا حسون) (اقتناء القطط مكروهٌ بالشريعة يا حسون) (أن القطط تجلب النحس وتطرد البركة يا حسون) (أن القطط تحمل السحر اليهودي معها يا حسون). الجملة الأخيرة استوقفت حسون كثيرًا وبقيت محل اهتمامه وهو في الثامنة من عمره، فقرر أن يقطع الشك باليقين ويذهب إلى من يمارس السحر والشعوذة، ولا يعرف أحدًا غير أم نضال، وعلى الرغم من خوفه منها كسائر الأطفال إلا أنه استطاع أن يكسر عقدة الخوف عنده ذات ليلة ويخرج من دون عِلم أهله ليلتقي بأم نضال بعد تخطيط دام لليالٍ عديدة.
في تلك الليلة كانت أم نضال جالسة تحرق “الحرمل” مع البخور وبعض تراب القبور وتتمتم بجملها المُعتادة. في ذلك الوقت كادت أم نضال أن تقتنع أن ما تقوم به ما هو إلا ضرب من الخيال وبعض الحظ، فقد صادفتها الكثير من المرات التي لم تستطع بها تعويذاتها غالية الثمن أن تُحقق ما تُريد النساء. وآخرها هو ما حدث مع أم دعاء عندما أرادت أن تُعطّل طلاق أبنتها دعاء لكن السحر لم يجدي نفعًا. في هذه الأثناء وفي وقتٍ متأخر من الليل طُرِقَ باب أم نضال، فخافت وارتعدت وقامت بترتيل بعض الآيات القرآنية، ثم انتبهت لنفسها وقالت (ها أنتِ بدأتِ تصبحين عجوز مُخرفّة لا تؤمن بما تقوم به من سحر). سكنت قليلًا وبدأت بالتنصّت وقلبها ينبض بسرعة، وأطراف أصابعها ترتجف بقوة. جاءت إليها الكثير من الاحتمالات عمّن سيكون خلف الباب، في بادئ الأمر اعتقدت أنه جن أو شيطان، لكنها بعد ذلك شككت في أن يكون شرطيّ خلف الباب قد جاء ليلقي القبض عليها بشكوى من أم دعاء، أو قد تكون أم دعاء هي نفسها أو أحد النساء ممن لم يفلح السحر مع قضاياهن. تنصّتت للباب فلم تسمع أي صوتٍ آخر. رجعت لعملها لكنها خائفة ومترددة. فجأة تم طرق الباب مرةً أخرى، أطفئت أم نضال الحرمل والبخور سريعًا ورمت أغراضها في حفرة مُعدة مُسبقًا لتخبّئ بها أدواتها السحرية. مشت نحو الباب بهدوء وريبة، وقفت خلف الباب ووضعت أذنها قريبة عليه. طُرِقَ الباب مرةً أخرى. مَن؟ قالت أم نضال بصوتٍ مرتجف يتخلله الخوف. (أنا.. أنا خالة أم نضال، أنا حسون) ازداد خوف أم نضال أكثر، فهي لا ترى هكذا مشاهد إلا في أحلامها. وما زاد من ارتجاف أم نضال أكثر هو اعتقادها بأن ابنها نضال رَجِعَ من الموت وقد طرق الباب. لكن من خلف الباب قد قال إن أسمه حسون وليس نضال! (أيُّ حسون؟ أنت نضال؟) صمتٌ لثوانٍ قد كانت بمثابة ساعات على أم نضال، ثم خرج صوت يقول (أي، أنا نضال).
بعد موت زوج أم نضال بسبب رصاصة استقرت في صدره بعد شجار طويل وخلاف دار لمدى شهرين مع أحد التجّار الذي كان أبو نضال يتدين النقود منه ولم يرجعها إليه. لم يبق عند أم نضال غير أبنها الوحيد الذي جاء بعد اسقاطين لطفليها السابقين. كانت تخاف عليه خوفًا مُبالغ به إلى حد منعه من اللعب في الشارع إلا وهي واقفة تشاهده، نضال كان مُتعلقًا بأمه لكنه في نفس الوقت قد أحب اللعب والخروج من دونها كما يفعل أقرانه من أطفال الحي. ذات يوم وعند دخول أم نضال إلى الحمام خرج نضال دون علمها، وعلى الرغم من قفلها لباب البيت واخفاء المفاتيح إلا أنه استطاع ايجادها. خرج خلسةً، وبعد دقاق سمعت أم نضال صوت اصطدام سيارة وصوت المكابح. خرجت مُسرعة ولم تلبس حجابًا على رأسها كما تفعل عادةً. ركضت حافية بعدما عرفت أن نضال ليس في البيت، خاصة وأن إحساس الأمومة قد قال لها أن نضال في خطر ما. عند وصولها للحشد المُجتمع حول مكان الحادث لمحت من بعيد أبنها نضال مُرمى في الأرض ومُخضب بالدماء. آخر أنفاسه كانت بحجرها. صاحب السيارة التي قتلت أبنها كان هو أبو حسون نفسه.
فتحت أم نضال الباب وقد رأت حسون واقفًا أمام الباب بعيون خائفة. بقيت تتمعن في ملامحه وتذكرت ملامح ابنها نضال، فتحت الباب أكثر ليدخل لكنه لم يفعل.
– ادخل يا حسون
– لا يا خالة. أريد سؤالكِ عن أمر وسأذهب بعدها بسرعة
– اسأل
– هل حقًا أن القطط تحمل السحر اليهودي معها؟ أوعدكِ أنني لن أقول لأحد
– من قال لكَ هذا يا ولد؟
– أبي قال ذلك
سكتت أم نضال وبقيت تنظر لحسون، لكن بالها وبصرها كان في غير مكان، في مكان الحادث الذي سرق منها أبنها الوحيد، عُرِضَت أمامها ملامح أبو حسون في وقتها، وشعورها، وأبنها في حجرها تغطيه الدماء. تذكرت أيضًا كيف أن القضية قد أُغلِقت سريعًا بسبب أن أبو حسون يرجع بنسبه لعشيرة ترجع للنبي مُحمد، فهو سيّد. وكيف أن مبلغ ست ملايين دينار عراقي قد رُميَ بحجر أم نضال تعويضًا عن ابنها.
خطرت فجأة فكرة ببالها، وهي أن تُفجع أبو حسون بأبنه كما فعل هو، فالفرصة سانحة، وضميرها لن يؤنبها، لأنها ستفعل كما فعل أبو حسون، وبالتالي هي لم تفعل أمرًا خاطئ.
– نعم هي ذلك، والسحر لا يذهب إلا بالنار فعلينا حرق القطط وقت المغرب.
قالت أم نضال لحسون، الذي لمعت عيناه وركِضَ راجعًا لبيتهم دون أن تفعل أم نضال شيئًا مما قد خططت له بباله. فإن يديها قد تجمدتا مكانهما، وقلبها لم يطاوعها بأن تؤذي هذا الطفل البريء.
مرّت الأيام وبقي حسون على عادته في حرق القطط، لكنها بدأت بالتلاشي شيئًا فشيئًا عندما تقدم بالعمر، وبقيت علاقته بأم نضال، فكانت سريّة وقوية، فهي تحسبه هدية من السماء ليعوضها عن أبنها نضال.
لقب هتلر ظلَّ ملاصقًا له، لكنه أيضاً بقي في دائرة أصدقاء الطفولة المحدودة.
في المتوسطة قرر حسون ان يعزف الناي، بعد أن رأى واحدًا في بيت أم نضال، فبادر أباه أن يشتري نايًا ليعزف به، لكن أبوه رفض ذلك، قائلًا: (حسون، تريد تجيب الفكَر لبيتنا؟).
بقي حسون متمسكًا بفكرته ولم يقبل الحياد عنها، فباعتقادهِ أنه كبر ويجب أن يسمح له أبوه باقتناء الناي، وقبلها القطط. وبعد يومين أسبوع طلب حسون الناي من أم نضال، التي تفاجئت بطلبهِ لكنها قبِلت أن يأخذه وتعلمه بشرط أن يعزف في بيتها فقط.
بعد أسابيع اتقن حسون الناي، وبقي يعزف وينفث غضبه فيه، وأمام عينيّ أم نضال، فقرر أن يذهب لأبيه ليريه كيف أنه استطاع اتقانه وأصبح يُبدع فيه.
كان أبو حسون يُصلي الظهر، وبعد أن فَرِغَ من صلاتهِ استدار ليرى حسون وراءه ممسكًا الناي، فاشتعل غضبًا ولم يعد يرى ما أمامه، هرول نحو حسون وبخطوتين وصل اليه وبدأ يضربه بمسبحته دون أن يسمعَ كلمات حسون، الذي بقي يقول(اذا أردت أن اعزف لك سأعزف وسيعجبك، وان رفضت فلن أعزف) كان حسون يكرر كلماته هذه ويذرف الدموع معها آملًا أن يتوقف أبيه عن ضربه، لكن دون جدوى، واستمر الضرب فقرر حسون الهرب، ركض لكن قدم أبيه ضربته سريعًا ليدخل الشباك في رأسهِ، وبقي أبو حسون يضربه بهستيريا حتى انتبه أنه لم يعد يتنفس، فتنبه لوضعه وركض ليطلب النجدة.. لكن لا جدوى، فقد مات حسون.
بعد ذلك فقد أبو حسون عقلهُ وأصبح مجنونًا يضربه الأطفال كلما يسألهم عن ابنه حسون، وحتى محاولات عائلته بحبسه باءت بالفشل، فقد كان يُخرج رأسه من النافذة ليصيح بالأطفال:
( قد غابت الشمس، نادوا على حسون ليكف عن العزف عن القطط ويأتِ للبيت، لا أريده أن يُصلي، فقط أريده أن يدخل البيت ثانيةً) ويجهش بالبكاء. كانت هذه حال أبو حسون يوميًا، لكنها لم تدم أكثر من شهرين، ففي يومٍ من الأيام قامت أم نضال بفتح باب الغرفة الخارجية المحبوس فيها، لتدخل وتغرس السكين بقلبهِ. وعندما تم سؤالها عن سبب قتله قالت (قتل اثنين من أطفالي، نضال وحسون!).

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *