ان كنت أذكر من عهد الطفولة فأذكر أنها كانت طفولة ممتعة , وأغرب ما فيها مشهد رجل لا يشبه أحدا ولا يشبهه أحد كأنما ولد من رحم غول , عريض المنكبين ممتليء القامة , شعره المخضب بالمشيب ينسدل على كتفيه , له فم واسع وعينان كعيني ذئب مع حاجبين كثيفين . أما لباسه فكان قصيرا لا يعدو الركبتين قاتما مرقعا , بينما بقيت قدماه عاريتين في قيظ وبرد .
لم يكن هذا الوحش سوى متسول يدخل الزقاق قبل الظهيرة وقبل العشاء , يطرق الأبواب طرقات ثقيلة توقظ النيام , ولم تكن له لغة يتحدث بها الا أنه يطلق أصواتا مبهمة .
كانت في يده عصا غليظة على الدوام يتقي بها من يريد ايذائه لكنه نادرا ما يفعل ذلك , ألفه أهل الزقاق فلم يعد يخشاه أحد بيد أنهم كانوا على حذر من المزاح معه خوفا من غضبه , فهو اذا ما غضب لا يقوون عليه مجتمعين .
وحينما يزاول الصبية لعبهم ومرحهم يمر هو من بينهم دون اكتراث من جانبه بينما يكتفون هم بالابتسامة والاشارة دون وجل .
من أين منبته ومن أين جذوره ؟ لا أحد يعرف اذ لم تكن له أسرة ولم تكن له دار , ينام في العراء في مكان مهجور في أقصى المدينة .
ولعل أغرب ما في الصورة أن السن التي كان عليها الرجل تجاوزت الثمانين , هكذا يخيل لمن يراه الا أنه رغم ذلك كانت له قوة غير عادية , يسير بخطوات أشبه بالهرولة , عجبا كيف تسنى له هذه القدرة على البقاء بل الصمود في زمن كان الفقر سمته وطابعه .
وما أذكره عن المتسول الذي يثير العطف والرثاء معا في تلك الطفولة الممتعة اننا كنا نرتاح بمقدمه رغم هيئته البشعة ولعلنا كنا نتعاطف معه وربما أحببناه , اذ أصبح جزءا من مشهد اعتدنا عليه كل يوم , وهو حينما يغادر الزقاق حاملا على كتفه متاعه بل قوته الذي جمعه كنا نهمس بحسرة على بؤسه ووحدته وغربته , أجل كان يراودنا هذا الشعور في ذلك العهد .. شعور بالألم والمرارة نابع من الأعماق .
ولقد أحزننا فيما بعد أننا افتقدنا الرجل أياما متتالية في الوقت الذي لم يغب عنا قبل ذلك يوما طيلة أعوام , ترى فيم غيابه وما الذي استجد , هل أصابته علة وهو القوي ؟
وجاءتنا المفاجأة التي هزت قلوبنا الغضة وأبداننا الطرية , جاءت المفاجأة بموته في العراء وحيدا بائسا مشردا , دون عزاء من أحد , غير أننا نحن صبية ذلك الزقاق افتقدناه وطالما ذكرناه حينما بلغنا مبلغ الرجال .
وما تزال حكايته حكاية نرويها لأحفادنا تسلية وعبرة .