لم تكن تريد أن تنهض من سريرها في تلك الساعة , كانت تحلم أحلام الصبا الوردية .
بدت كزهرة برية في ذلك الصباح الباكر من خلال عينين سوداوين واسعتين وثغر مبتسم وجسد ينم عن حيوية , ولا غرو فانه الربيع في عنفوانه وحركته ونشاطه .
ولم تكن الصبية تتجاوز الخامسة عشر .. السن التي تؤهلها للدخول في مرحلة جديدة من الحياة .
أخيرا نهضت فرأت الشمس من خلال النافذة قد ارتفعت , ولم يكن من عادتها أن تتأخر في النوم غير أنه الربيع .
تناولت الفطور على عجل مع أسرتها في ساحة الدار وقد فتحت الباب على مصراعيها , بينما كان النسيم العذب يتدفق من غير استئذان يداعب الوجوه ويداعب معها أوراق شجرة التوت الباسقة .
قال الأب مخاطبا امرأته :
– لقد تأخرت ولا أدري ان كنت سأنجز العمل اليوم .
فردت عليه بابتسامة :
– لا تثقل على نفسك , الوقت لا زال مبكرا .
– أريد أن أسبق الوقت حتى يأتي المحصول قبل أوانه .
– فيم العجلة ؟ صحتك أهم فلا تخسرها .
– أراك خائفة .
– الحذر واجب .
وما لبث أن خرج ليلحق بمزرعته الصغيرة المتواضعة والتي هي مورد الرزق الوحيد للأسرة .
وألقت المرأة نظرات لها معنى على ابنتيها , ثم انصرفت الى عملها المنزلي المألوف .
قالت هند لأختها الصغيرة :
– ينتظرنا عمل كثير , أرني همتك لانجازه .
فقالت رباب ببراءة الطفولة :
– سمعا وطاعة أيتها الأخت العزيزة .
وارتفعت الشمس بعد قليل مشيرة الى وقت الضحى , وبدا كل شيء هادئا لا ينذر بخوف , بينما كان الربيع مبتسما بنقائه وصفائه حتى ظلل على القرية جميعا .
ولم تكن هند قد فرغت من عملها بعد ولا أختها الصغيرة رباب , أما الأم فقد انشغلت باعداد الطعام .
طيلة السنين الماضية كانت الأسرة تنعم بالأمان , غير الحب الذي جمع الشمل , ورغم علامات الفقر البادية على أركان البيت الا أن القناعة فرضت نفسها دون اعتراض من أحد , وكان الأب يقول دائما : الفقر بستره ولا الغنى بكفره .
أما هند فبالرغم من أحلامها العريضة وتطلعاتها التي أفرزتها المدرسة والتي رسمت لها بعض ملامح الطريق كبصيص نور الى دنيا جديدة قادمة الا أنها رغم ذلك كانت ترى أن القدر لا غير هو الذي يحدد حياة الناس ان كان شقاءا أو سعادة , فقرا أو غنى , فقد أدركت ببصيرتها وذكائها أن اليأس كالحبل الذي يلتف على الرقبة , وأن الصبر بمثابة سكينة للنفس ولكن من غير استسلام.
ولم يكن في حياتها شيء يثير الاهتمام الا رضا أبويها عنها وأن تمضي قدما مما تتعلمه في المدرسة , ليس لها طموح أكثر ولا تطلعات مجنونة , وهي مع ذلك صبية لم تدرك بعد التحولات التي بدأت تطرأ على جسدها وما يرافق ذلك من رؤى هي مشروعة على الأقل لكثير من بنات جنسها , ولكن براءة الطفولة ظلت هي الطابع المميز لنظراتها وعلى ملامح وجهها , ولم تدرك بعد أنها أنثى بدأت تجذب الأنظار بحركتها ومشيتها والتغيرات التي طرأت عليها أخيرا .
ومع ذلك فقد مضى النهار سريعا في دوامة العمل حتى استقر قرص الشمس في الأعالي تماما ,لقد حان وقت الظهيرة وعاد الأب متعبا .
تلقته هند بابتسامة عذبة وطبعت على خده قبلة أردفتها رباب بعدة قبلات بينما هتفت الأم أن الغذاء جاهز .
جلسوا جميعا يستمتعون بالطعام وبقلوب متضرعة الى الله أن يديم عليهم نعمته ومعها الأمان , غير متناسين أن الوطن في محنة وأن هذه المحنة شديدة الوطأة على كل من يعيشها .
بعد أن فرغوا من تناول الطعام جاءت ساعة القيلولة فآوى كل منهم الى ركنه ليستريح .
خيم الصمت والسكون على الدار , ولم يعد يسمع من صوت سوى صدى أنفاسهم .. فلما آذنت ساعة القيلولة على الانتهاء صكت آذانهم جميعا أصوات غير معهودة ومعها اطلاقات نارية .
تساءل الأب بفزع وهو يواجه امرأته :
– ما الذي يجري ؟
الا أن حقيقة الأمر بدت واضحة تماما بعد لحظات .. لقد اقتحم جنود الاحتلال الدار , ومن غير مقدمات ولا انتظار أطلقوا الرصاص على الرجل ثم على المرأة ثم على الصغيرة رباب , تساقطت أجسادهم جميعا على ارض الحجرة بلا مقاومة وقد تضرجوا بدمائهم .
ترى بأي ذنب ولماذا ؟ لا أحد يعرف .
غير أن الجنود لم يتوقفوا ليتساءلوا , انطلقوا الى الحجرة الأخرى , هناك كانت هند قد نهضت من قيلولتها فزعة مرتاعة .
وقف الجنود الأربعة ينظرون الى الصبية نظرات تعطش واشتهاء رغم الجريمة البشعة التي ارتكبوها قبل لحظات ..ووسط هذه المتاهة الغريبة المحيرة وقفت هند تدافع عن شرفها , أدركت أنهم يريدوها , تقدم أولهم ليمزق ثيابها .. هكذا عنوة ليكشف أجزاء من جسدها ما كانت هند ترضى يوما أن يلمسها أحد , غير أن الوحش ألقاها على السرير وهي تصارعه بما أوتيت من قوة حتى تهالكت .
فلما اغتصبها الجندي الأول تناوب اغتصابها بقية الجنود .
في تلك اللحظة فحسب أحست أنها ماتت ظلما وغدرا رغم أنفها , كانت لحظة حاسمة تمنت فيها لو أنها لم تولد .. وذلك يعني الكثير , الكثير بالنسبة اليها وهي الصبية البريئة ..قبل أن يدنس جسدها وحوش مفترسة فقدت حياء الانسان وجوهر الانسان .
أحست هند في تلك اللحظة أنها ماتت وانتهت الى الأبد , غير أن الجنود تابعوا مهمتهم بجرأة واقتدار بل برجولة مزعومة ليطلقوا الرصاص عليها ثم لتسكت أنفاسها الى الأبد .
وقبل أن تغادر الذئاب الدار أشعلوا النار قرب ضحيتهم ليسدل الستار على الجريمة , متناسين أن العقاب سيأتي عاجلا أم أجلا , وأن الجريمة البشعة التي أرتكبت بحق أسرة لن تضيع معالمها ولا خيوطها .
خرج جنود الاحتلال من الدار وهم يحسبون أنهم قد حققوا نصرا لا مثيل له .. نصرا موهوما جبانا فيه خسة وفيه ذل بعيدا عن كل معاني الشرف والرجولة .
غير أن الشمس ظلت في مسيرتها باتجاه الغرب , والربيع العبق يهمس بهمساته المعهودة دون تردد , بينما بدت القرية من بعيد مستسلمة لقدرها , وفي احدى دورها ارتكبت جريمة مروعة بحق أسرة تشتكي الى بارئها صنيع جنود الاحتلال ومدى وحشيتهم وهمجيتهم .