الطّبيبُ “أديبُ”، ولكلِّ أمرئٍ من إسمِهِ حُظْوَةٌ ونصيبُ.
ولَمّا إستَرقَ سمعُهُ -حينَ زرتُهُ- نبضَ خافقي مُتَعَثِرُ الدّبيبِ، ما تَهوَّلَ حالَ عِلَّتِيَ وما تقوَّلَ الأديبُ، وماَ صرَّحَ بلحنٍ أعجميٍّ ذي عِوَجٍ أنَّ دائيَ غامضٌ وغريبٌ، لكنَّهُ نَظَرَ في سماهُ نظرةَ مُحتَرفٍ لَبيب، وقالَ بحرفٍ واثقٍ عن علمٍ لا يَخيبُ: إنَّ الَّذي بِكَ هينٌ، وما مِن حاجةٍ لتَأوِّهٍ ولا نَحِيب، فما مِن داءٍ إلّا و فَصَمَ ظهرَهُ دواءٌ، مَا خَلاَ هَجرَ الحبيب، فلَيسَ لهجرِ الحَبيبِ من طَبيب. راقَني خِتامَ ما قَالَ الخبيرُ الأديب، (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) نَجيب، فأومَأتُ أنْ نَعَم، ولعَلَّ مَكمَنَ دوائهِ في أوبةِ الحَبيب، قالَ أجَل، فإلزَمْ كُثَيِّبَاً حولَ حيِّيكُمُ أو عُرْقُوباً من عَرَاقِيبِ، وتَرَقَّبْ كما تَتَرَقَّبُ في أفاقِ الورى حَدقاتُ رؤوسٍ خَضَّبَها المَشيب، تَرَقَّبْ صُبحاً إذ الشّروقُ لِندى الفَجرِ يُذيب، وتَرَقَّبْ حينَ تُمسي إذ الغُرُوبُ لِصدى الهجرِ يُصيب. قُلتُ إي، وَلكِن عَلَّ الحَبيبَ يَسمعُ فيَستَجيبُ.
وهلِ الطِّبُ إلّا لَمَساتٌ تَمسحُ عَرَقَ جَبينِ مُتهَتِّكٍ مِن طَبيبٍ لَبيب، وقَسَمَاتٌ تَفسحُ أَرَقَ رنينِ مُتبَتِّكٍ في شريانهِ مُريب، وإذ إِسْتَأْثَر الطّبيبُ صَنْعَتُهُ مِن على أرائِكِ المِلائِكِ بعدَ عناءٍ كادَ للصّخرِ أن يُذيب، وإذ تَرى الطّبيبَ للآلامِ مُتَعَسِّسَاً، وللأورام مُتَحَسِّسَاً ، ومُتَفَرِّسَاً للأسقامِ بِتَفَرُّسٍ عَجيب، وإذ تراهُ مُتَمَترِسَاً في ميادينِ الوبا كأنَّهُ للسَّقيمِ ابْنُ أُمّ، ويَدفعُ عنهُ كَوَلِيٍّ حَبيب، وإذ أناملُهُ تَعزفُ على خَيْشُومِ العِلَلِ لحنَ شفاءٍ طَروبٍ غيرِ رَتيِب. وإذ تَرى مِيثاقَ الطَّبيبَ للملائكِ مِيثاقَ وفاءٍ، وعهدَهُ عهدَ صفاءٍ مَهيب،
ورغمَ أنَّ مِدادَ حَرفي يَنْحَبِسُ، ولا ينْبَجِسُ في مَثْوىً ذوي تَوَعُّكٍ بُؤساءَ بِتَخصِيب، وودادَ طَرفي يَنْطَمِسُ ولا يَنْغَمِسُ في مأوىً ذوي تَنَسُّكٍ أطباءَ بِتَخضِيب، وما خَطَّتْ بنانيَ كتاباً مِن قبلُ في باءِ الوَباءِ، ولا أَطَّتْ عَنانيَ بخطابٍ في داءٍ ورَمْدَاءَ ببهاءٍ وتَرحِيب، بيدَ أنَّيَ سأدعُ بنانيَ أن تَتحَلّقَ في عنانيَ بِتَشذيب، وتَتَألَّقَ في بَيانيَ للطَّبيبِ “أديب”، عَلَّها تُؤَطِرُ إمتناناً غيرَ مُتَزلّفٍ، وتُعَطِّرُ إفتناناً غيرَ مُتَكلّفٍ ما بينَ ألفٍ وياءٍ بِتَرتِيب.
لكأنّيَ بالطِّبِ عابرُ سبيلٍ مَرَّ يَستَعلِمُ عن دارِ الأديِب، ليَتَعَلَّمُ منهُ رَسَمَاتِ التَّجَرُّدِ بِتَنسيب، ويَتَغَنَّمُ منه لَمَسَاتِ التَّمَرُّدِ بِتَسريب، ويَتَنَغَّمُ منهُ هَمَسَاتِ المَهارةِ فيَفُوزَ بِتَدريب، وإذ هُنالكَ في دارِ الأديب لن تُضطَرَّ لإبانةِ الدَّاءِ، لن تفعلَها بإِقْتِضَابٍ ولن تَعوزَ لتَطْنِيب. فَدارُهُ ترميَ الدَّاءَ مِن فورِها بِنَبْلِ الرَّصانةِ رَمياً، وتَطويَ الوَباءَ في غَورِها بحَبلِ الحَصانةِ طَيَّاً، فلا ضِيافةَ للدَّاءِ في الدَّارِ، ولا تَجوزُ على طَبيبٍ نَقِيب. دارٌ تَكتَفِلُ بِعلمٍ رَصينٍ، وتَحتَفِلُ بِفَهمٍ حَصين لهُ تَملِكُ وتحوزُ بِتَهذيب، ولا يَطِيبُ التَّطَبُبُ إلا معَ أديبِنا أن يَطِيبَ، طَبيبٌ عَرَشَ على نواصيَ “البَاطِنيةِ” وعَرْشُها لهُ صاغراً يَستَجِيب.
وَقَانا رَبُّنا رَبُّ المَساجدِ والمَحارِيب، كلَّ آلامٍ تُصَيِّرُ البالَ كاسِداً بِتَقطِيب، وأَورَامٍ تُغَيِّرُ الحالَ فاسِداً و يَعِيب، وَلَئِن أقبَلَتِ الأيامُ بإيِلامٍ يَبغيَ الجَسدَ بِتَعذيب، فَمِن حُسنِ حَظِّ المَرءِ أن يَحظى بِطبيبٍ نجيبٍ غيرِ كَئيب، فأَنعِمْ بِطَبيبٍ هوَ للسَّقمِ خصيمٌ رَهيب، وللسَّقيمِ حَميمٍ حَبيب، وذاكَ لَعَمريَ هوَ الطَّبيبُ أديبُ. ومَا فَتِئَتْ أسبابُ الشِّفاءِ مُغَلَّقَةً بيدِ الحَسيبِ الرَّقيبِ، ومُعَلَّقَةً بِدُعاءِ ذي داءٍ الى السَّميعِ المُجيب.