كَكُلِّ صباحٍ وحدي أرتَشِفُ قهوتي وأتفقَّدُ عُصفوري الصغير الذي جلَبتُه مُجدَّدًا لأني بِحاجةٍ لما يُؤنِسُني، صوتٌ ما، همسٌ أو حتى حركة، ولِلأسف كان عصفوري عديمُ صوتٍ وأبكم!

في البدايةِ يئستُ وغضِبت وندبتُ حظي ولعنتُه ولكن لِسببٍ ما لم أُرجِع العصفورَ لِلبائع، لِسببٍ ما لا أعلمُه أبقَيتُه بِجواري

ربما كنتُ بِحاجةٍ لِلصمت، أو ربما بِدافعِ الشفقةِ!

أعتقِدُ أنها الإجابة الأقرب لِأن أعتنِقَها “الشفقة”، لم أشأ أن أتركَه فقط لِأنَّه أبكم!

شُعورٌ مُميتٌ أن تُترَك لِأجلِ عيبٍ ما خُلِق معكَ بدونِ إرادتِك، عيبٌ كان قدرَك الحتمي والوحيد في هذه الحياة وتقبُّله هو الشيء الوحيد المفروض منكَ ومن محيطك، تُقتَلُ باليومِ آلاف المرَّات كلَّما أطلَّت الفكرة بِكامِلِ جُرأتِها وقسوتِها بين أفكارِكَ الكثيرةِ والشَّائكة، ولأنها الفكرةُ التي سبَّبَت لكَ ندبًا لن يندمِلَ أبدًا ستُطِلُّ كثيرًا وستُثيرُ الكثيرَ من نوباتِ الألمِ الذي لا يُحتَمل وستَعصِرُ روحَكَ كلَّ يومٍ وتقتَلِعُ الدَّم من عينَيكَ اقتِلاعًا، باختِصار ستكونُ احتِضارَكَ لِلموتِ كلَّ ليلة.

لأنَّني أعرِفُ ذاكَ الشُّعورَ جيِّدًا بل إنني قد أفوزُ بِجائزةٍ ما لِأفضلِ من عرفَ شعور أن يُترَكَ لِعَيبٍ لم يشَأ وجودهُ أصلًا لم أترُك العُصفور بل إنني رغِبتُ بأن يُشارِكني صمتي المُطبِقِ منذُ وِلادتي وَوِحدتي الدائمة لِانعِدام تواصُلي مع مجتَمعٍ رفضَ قُبولي أو مُحاولة فهمي ولو بالإشارات

وُلِدتُ بكماء وهذا كانَ نصيبي من الحياة، لم أعرِف بِحياتي كيف هو صوتي أو كيف ستكونُ الكلِماتُ التي تخرجُ من فمي، هل ستكونُ عذبةً جميلة أم رديئة، لطالما فكَّرتُ بالأمر ولكنِّي لم أصِل لِأيِّ نتيجةٍ بعد.

كنتُ وحيدةً لِوالِدَيَّ وكانا يُحِبَّاني رغم صمتي وصعوبة إيصال أفكاري إليهِما، كانا صبورين، ولِأنَّ أمي لم تشأ أبدًا أن أكبُر بعُزلتي المُظلِمة علَّمتني كيف أحِبُّ القِراءة وأعشقُها، كيف أتراقصُ مع الكلِمات وأعزِفُها على ورقةٍ هي أوَّل من سمِع همسي، ومع تقدُّمِ الأيامِ والسِّنين وكثرةِ ما قرأتُ من كتب يبدو أنَّني تأثَّرتُ بها كثيرًا وأصبحتُ أكتُب!

لطالما قالت لي أمي: سأكونُ فخورةً بكِ يا ميلينا فلا تستهيني بِقدراتك، الكلِمات التي لن تلفظيها بِلِسانك الفظيها على الورقِ وستُبدعين، داخِلَ قلبِكِ عالمٌ وردِيّ لا وجودَ له بِعالمِنا لِذا عليكِ إظهاره.

كانت مُحِقة أمي فعالمي الوردِي الذي نثرتُه على صفحاتِ التواصُلِ الاجتماعي جذب الكثيرَ لِيقرأ داخِلي، وَهمِي وربما أحلامي التي ربما لن تكون، وجذبَ معهم جاد!

أحَبَّ كلماتي ومن ثمَّ تعلَّق بميلينا الكاتِبة، وتعلَّقَت ميلينا البكماء به!

لم يكُن يعلمُ عن هذا الأمر ليس لِأني قصدتُ إخفاءه ولكنَّ الفرصة لم تأتِ أبدًا، كُنا نُرسِلُ لِبعضِنا البعض أبياتَ شِعرٍ أو نتحاورُ كِتابةً بأمورٍ عديدة، لم يخطُر ببالي أبدًا أنَّ صمتي سيُنهي قِصَّةً لم تبدأ بعد

في اليوم الذي صارَحَني فيه بِحبِّه صارَحتُه بِحبِّي وبكمي فلم يُجب سِوى بالصَّمت والغِياب، وهكذا انتهَينا!

شهورٌ تِسعة من الاعتِيادِ والشَّوقِ والاعجاب وانتِظارِ لحظةِ البوحِ انتهَت باعتِرافٍ أبكَم!

الجوُّ بارِدٌ اليوم والسماءُ غائمة، دِمشقُ كعادَتِها بهِيَّةٌ ساحِرة وأظُنُّها تتَجهَّزُ لارتِداءِ بياضِها قريباً، هذا ما خمَّنتُه عندما ألقَيتُ نظرةً من النافِذة.

كَكُلِّ يومٍ وحدي أرتَشِفُ قهوتي وأتفقَّدُ عُصفوري ويغرَقُ كِلانا بِصمتٍ مُطبِق.

 

 

يعتقد واحد على "اعتِرافٌ أبكَم “الكاتبة مياس وليد عرفه”"

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *