أنا حزين على أدبائنا وكتَّابنا الذين نغرقهم بالدموع بعد موتهم، ولا نوجه لهم التحية إلا بعد أن يكونوا عاجزين عن ردِّها. لا بمثلها ولا بأحسن منها. كأنهم لا يستحقون منّا الأسف إلا بعد رحيلهم. ولو أننا بكينا لهم في حياتهم لهانت عليهم ويلات الدنيا وأهوالها.
وحزين أكثر وأنا أراهم يموتون دون أن تكون لهم فخامة الجنازة، أو حتى جنازة متواضعة تليق بأسمائهم. ومن حسن حظهم أنهم لا يرون من يسير في تشيِّيعهم، أو يحضر مجلس عزائهم، وإلا لكانت مصيبتهم أكبر من موتهم!.
ومهما كانت الجنازة متواضعة والوفاء نادراً، فإنه لا ينقص من قيمة بدر شاكر السياب شيئاً وهو الشاعر الكبير أن أربعة أشخاص فقط ساروا في جنازته إلى مقبرة الحسن البصري.
مثلما لا يقلِّل من مقام الشيخ جلال الحنفي العالم والعلامة أننا لم نجد أحداً يمشي في جنازته حتى توهم الناس أن النعش يمشي وحده، أو أن الحنفي يمشي وحيداً مع جنازته!.
ويوم مات الأديب مصطفى المنفلوطي لم يمش في جنازته سوى ستة أشخاص من أسرته. فقد انشغلت مصر كلها بحادث اطلاق الرصاص على زعيمها سعد زغلول وفي ذلك نعاه أحمد شوقي قائلاً:
اختـرتَ يــومَ الهـول يــومَ وداعِ
ونعاكَ في عصف الرياح الناعـي
مَنْ ماتَ في فَزَعِ القيامةِ لم يجدْ
قَدَمَــاً تشيِّـــعُ أو حفـاوةَ ساعـي
والشاعر سعدي يوسف حملوا جثمانه إلى مثواه الأخير في مقبرة بلندن، وكانت الجنازة خالية منَ المشيّعين تماماً.
وشاعرنا يوسف الصائغ انطفأت عيناه في دمشق ولم يشعر أحد برحيله ولا سار في جنازته، ولا نعاه اتحاد الأدباء ولا قال في رثائه كلمة.. أما الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد فكانت طريقة دفنه في باريس غريبة ومؤلمة خلافاً لوصيته!.
وجنازة محمد حسنين هيكل كانت متواضعة تخلو من التشيّيع الرسمي. فقد شاءت مصادفات الأستئذان بالانصراف “للأستاذ” أن يرافقه في رحيله بطرس غالي السياسي العتيد. لكن لم ينقص من قدر باشا الصحافة العربية أن جنازته كانت أكثر تواضعاً من جنازة عميد الدبلوماسية المصرية، وأن أركان الدولة لم يشاركوا في تشيّيعه.
والأديب الأيرلندي برناردشو نشر نعيه قبل وفاته، وطلب من الناس أن لا يمشوا في جنازته. وبعضهم كتب على قبره هذه العبارة: لم يمت، ولكن دفن حيَّاً!.
وعبد الرحمن شكري الشاعر الرقيق اختفى عشرين عاماً وعاش سراً، ومات يوم اكتشفوا مكانه منزوياً في الشارع ولم يسر في جنازته أحد.
والشاعر الفرنسي رامبو مات وحيداً، وكتب رسالة إلى أخته يقول فيها: “حياتنا بؤس بلا نهاية، فلماذا نحن موجودون”؟!.
والأديب الإغريقي سمونيدس اختار أن يكتب على قبره عبارة تقول: “يا من يمرُّ إلى جوار قبري قل لهم إن المعذبين ناموا هنا”!.
وعلى قبر الشاعر الألماني الساخر هاينه بيتان من الشعر ترجمهما الأديب ابراهيم عبد القادر المازني بهذا المعنى:
أيها الزائر قبري اتْلُ ماخُطَّ أمامَكْ!
ها هنا فاعلم عظامي ليتها كانت عظامَك