منذ زمن وصديقنا الدكتور سعدي الحديثي يعكف على كتابة جزء كبير من ذكرياته ومذكراته بما يشبه حصاد السنين، أو نقاط الحبر الأخيرة. لعلَّها وصلت إلى مرحلة النشر. أو هكذا أخبرني في لقائنا الأخير.
وقد أطلعني بسرده الجميل على عدد من صفحاته، وتجاربه، وحوادثه، وشخصياته، وأيامه، وساعاته. الحلوة منها والمرّة. كانت أبرزها صداقة عمر امتدت ستين سنة كاملة مع الشاعر الكبير مظفر النواب.
إنها رحلة حياة خصبة خضراء بدأت بينهما منذ أعوام الخمسينات في مرسم صغير بمدرسة الفجر في الكاظمية. كان سعدي يُعلِّم طلبتها التربية الفنية، بينما كان مظفر يُعلِّمهم اللغة العربية ويبهرهم بتعبيراته، وأشعاره، ورسوماته بالألوان المائية. والنواب لم يتزوج. وسمعت من سعدي أن مظفر عاش في شبابه أجمل الغراميّات. ثم خابت آماله في قصة حب لم تكتمل. أو أنها انتهت بالفشل حين دخوله السجن. وسمعت القصة ذاتها من شاعرنا الكبير عبد الرزاق عبد الواحد لكن برواية أخرى وهو يقول: لقد ألهمت هذه العواطف شاعرها ليكتب:
يفلان العمرْ يَشكَرْ ولَكْ يَفلان
شيكَضي العمرْ يَفلان
وهجركْ دومْ.
وفي يوم قال لي الفنان طالب القره غولي ونحن نغادر لقاء على غير موعد مع النواب في مقهى الهافانا بدمشق: إنه لولا ألحانه ما اشتهرت عدد من قصائده. فقد استطاع بحرفنة وذكاء تلحين: “حن وآنه أحن”، و”البنفسج”، و”روحي”، فجعل منها تحفة فنية بديعة.
في كتاب سعدي الحديثي تقرأ بدهشة حكايات مؤثرة ومواقف مشوّقة، عاشها في سجن “نقرة السلمان”. وكيف كان وزملاؤه يدَّخرون مصروفهم لدى النواب، ثم إذا بهم يجدون النواب بنوبة من سخاء، أو سفاهة في كرم، أعطى هذا المصروف لسجناء آخرين. وكان من عادة مظفر إذا أقرض مالاً لصديق فإنه يرفض أن يعيده إليه ذلك الصديق. ويظهر عليه الضيق والعتب. وأحياناً الغضب. ويسأل بعجب: كيف لصديق يستدين منه مبلغاً ويقوم بسداده؟!.
وبالمقابل فإن مظفر لا يعيد ديناراً واحداً إذا اقترض مالاً من صديق!.
ونظرية النواب تفترض أن الأصدقاء متكافئون في السراء والضراء. متساوون في كل شيء: البؤس، والحرمان، والتقشف.. والفلوس أيضاً. وفي ظلام السجون، والوحدة، والبرد. وكان يرى من غير الطبيعي أن يكون بين الأصدقاء طالب ومطلوب، أو دائن ومدين!. وكان مظفر يقاوم الملل في السجن بأشعاره ونكاته ومسامراته. وكتب في هذه العزلة عشرات القصائد.. أما سعدي فكان يتسلّى غناء وحداء حتى تهون الوحشة:
يا ساعَه يا يُوم كِلّي يا شُهرْ يا سَنَه!.
في ذكريات سعدي فإن النواب الشاعر الرقيق كقطرة ندى. كان يخجل أحياناً من خياله. لكنه في لحظة يشتعل غيظاً، ويلعن الكل، إذا مرَّ أحد من أمامه ولم يلق عليه السلام. وينتفض غضباً، ويسأل مستغرباً: لماذا لم يُسلِّم عليه فلان؟ هل ارتكب ذنباً؟ هل أخطأ بحقه؟ وكان سعدي يحاول أن يُهدِّئ من غضبه فلا يستطيع.
رحم الله النواب. لقد مات وفي قلبه حسرة. وحاول أن يسخر من كل شيء في حياته.. وكذلك فعل