هكذا أفهم الوطن ، وأختلف في تعريفي له عن كثيرين ، لقد قالوا أنه : تلك الرقعة الجغرافية من الأرض التي يولد وينشأ المرء فيها ، أي البلد بالمفهوم الحديث للوطن، لا ، أيقنت الآن بعد عمر ليس بالقصير عجنته تجارب من الأسى والاحباط والأمل، ان الوطن ليس الأرض ، بل الوطن هو الناس ، فالانتماء بالأصل للناس الذين يسكنون هذه الأرض ، اما الأرض فالانتماء لها يأتي بعد الانتماء لهم ، وبدونه لن يكون للأرض انتماء الا في حدود الجنسية ، ولذا سرعان ما يغادر الناس أرضهم بمجرد فقدان الشعور بالانتماء للأهل ، او يلوذون بالعزلة وتخيم عليهم الكآبة ان كانوا غير قادرين على الهجرة ، وأقصد بالأهل الجميع من الحاكمين الى المحكومين.
اللامنتمي يعني الرافض للمجتمع ، وليس بالضرورة أن يكون المرء متفوقا على المجتمع بفهم وادراك الواقع والوجود فلسفيا ليشعر بعدم الانتماء ، كما عند الكاتب كولن ولسن في جانب من طروحاته ، بل عندما تغيب المشتركات بين أفراد المجتمع ، بمعنى فقدان الانسجام بينهم ، ويحدث ذلك في حال استلاب الحقوق وهدر الكرامات والاقصاء والتمييز والتهميش ، وعندما يتلمس المرء ان روح العدوان والأحقاد والغلبة هي المتحكمة في الواقع . ان الانتماء الوطني والانسجام المجتمعي صناعة سياسية أولا ، فان فسدت السياسة اهتزت القيم وتوحش المجتمع.
منذ أكثر من قرنين قال جان جاك روسو ( 1712): ان الوطن هو الأرض والحق ، وانا أرى ان الحق أولا ، فمن شأنه خلق الانسجام ، ولا حق بلا عدل ، لذلك قيل : ان العدل أساس الملك ، وبدونه يهيمن الفاسدون ، ويتحكم بمقاليد الامور التافهون ، فتتأخر الدول ، وتكره الناس أوطانها وتفر بجلودها ، ويطيب لها العيش في الغربة ، بل وحتى الموت هناك ، هل اذكّركم ، كبار مبدعينا توسدوا الغربة وافترشوا الحسرة عندما صادفتهم المنية ، لن أذكر الأسماء فحضراتكم تعرفونها ، اما عامة الناس فلسنا بقادرين على عدهم.
ليس غريبا أن نسمع من الشاشات واللقاءات الشخصية كلاما عن الوطن لا نرغب بسماعه ، ولا نتمنى لقناعات أبناء الوطن ومشاعرهم أن تكون بهذه الحال ، لكن الحقيقة التي لم يعد يغطيها حلو الكلام او اغماض العيون : ان الوطنية تتراجع ، والوطنية كما تعرفون هي : الشعور بحب الأهل ، أي الانتماء لهم ، وعليه لا قيمة للأوطان ان لم يكن الحب بين الأهل عميقا ، معه يتأصل الاعتزاز بالبلاد والاهتمام بها والمحافظة على جمالها والدفاع عنها في الملمات والمباهاة بها مع الآخرين ، ولكثير من مظاهر الواقع دلالات تختلف عما ذكرت ، فسلوك اللامبالاة والغلبة هو الشائع في المجتمع ، حتى يشعرك ذلك ان غابة بدأت بالتشكل وصارت لها ملامح ، ولو كانت الفرص مؤاتية لغادر الناس الوطن.
أتمنى ان أكون مخطئا في قولي : ان الصورة المرسومة في الأذهان عن الوطن سلبية جدا ، أرجو ألا نغالط أنفسنا ، أعرف ان حب الأوطان بمعنى الأرض راسخ في الوجدان ، لكنه بحاجة لما يعززه ، لوحده قد يتلاشى ، وفي ظروف معينة قد يتحول الى كره ، هذه أفكار ووقائع ندونها حبا بأهلنا وأرضنا ، لأن فيها مصيرنا جميعا ، لا أخطر من تراجع الشعور بالانتماء للأهل والبلاد.
للأسف لم يسأل أهل الحل والعقد فينا عن أسباب شيوع روح الصراع بين الناس بدل التعاون ، واتساع السلوك العدواني بدل التسامح والرحمة ونكران الذات ، كثيرة هي الامور التي صارت ظواهر بعد ان كانت حالات ، وكلها تشيع الكراهية بين أفراد المجتمع ، ويدفع ثمنها الموطن الذي قُدر لنا أن نعيش فيه.
لا تُبنى الأوطان بالكراهية والأحقاد ، فمن شأن هذه المشاعر تأجيج الصراعات ، ونتائجها تفكك المجتمع وتصدع بنيانه ، والسؤال الملح : كيف لنا تغذية المحبة والانسجام بين الناس من أجل عيش آمن ، وبما يحفظ بلادنا من الانهيار ؟ . فأشد الانهيارات تلك التي تنبع من النفوس وتتقبلها العقول