في وداع الرموز ليس غريبا ان تتعطل لغة الكلام ، ولا مفاجئا أن ترفع العبارات رايات استسلامها ، أو ان تعلن الماقي عجزها عن ايفاء المناسبة حقها ، بما يليق من دموع. شلقد فعلت متوالية الاحزان مافعلت بنا خلال السنوات الاخيرة ، وجاء الدور هذه المرة على قامة سامقة وعلم بارز من أعلام الرياضة ، سخر للنهوض بها ماسخر من وقت وجهد ، وفي أكثر من ميدان ، وظل على مدى عقود القطب والمحور الذي تتحلق حوله الابصار والقلوب ، معلقا رياضيا لايشق له غبار، ومعدا ومقدما لواحد من أشهر البرامج التلفازية في تاريخ العراق ، إن لم يكن أشهرها على الاطلاق ، واستاذا يفاخر العشرات من العاملين في الوسط الرياضي بنهلهم من مناهل علمه وثقافته ، الى جانب تسنمه العديد من المناصب الرياضية الرفيعة ، وعمله في عدد من الصحف العامة ، أو الرياضية المتخصصة .
رحل الاستاذ مؤيد البدري بعد صراع طويل مع المرض، رافق غربته التي أمضاها في غير مدينة ، حتى شاءت ارادة العلي القدير أن يكون مثواه الاخير في غلاسكو الاسكتلندية ، على مبعدة آلاف الكيلومترات من الذين أحبوه واحترموه ، ليحزنهم اليوم فقده وهم لايملكون سوى الدعاء له بالرحمة والغفران .
“كول للعراق العظيم ” و “احنا نسكتهم بالكوال” ، وعشرات العبارات التي كانت تصدر من قلب الراحل الكبير، لا من لسانه لم نزل نحفظها عن ظهر قلب ، ونتحدث عن مناسبة ترديدها ، عندما كان الشيخ والمعلم يعلق على مباريات منتخباتنا الوطنية ، بحسه الوطني الذي يشد اليه الملايين ، من أقصى شمال القلب حتى أقصى جنوبه.
برنامج اثير
وبرغم مرور عقود على برنامجه الاثير “الرياضة في اسبوع ” لم يزل العراقيون يحنون الى ماكانوا يتابعونه فيه ، إعتبارا من الساعة التاسعة من مساء كل ثلاثاء ، بدء بالمقدمة الموسيقية المأخوذة من حلاق اشبيلبة ، ومرورا بالأخبار والتقارير والتعليقات التي لم يكن الوصول اليها يسيرا في ظل شح المصادر وندرة المعلومات ، وانتهاء بالاراء والافكارالسديدة التي كانت تحسم النقاش في أية قضية رياضية ،أو إشكال تحكيمي .
ومثلما هو طبيعي ومتوقع ، فان البدري الذي نال مانال من ثناء المتلقين واشادة المتابعين – سنين طوال – لم يسلم من كيد الكائدين وانتقاد المنتقدين الذين كانوا يلصقون به بعض التهم ، التهم التي كشفت الايام زيفها فبعد عقود من اعتزاله ، وانزوائه بعيدا عن الوسط ، لم يستطع أحد أن يشغل مكانه ، أو ينهض بدوره ، برغم كل التطورات التكنولوجية التي جعلت من العالم قرية صغيرة ، بامكانك بكبسة زر أن تحصل على ماتشاء من أخبار ومعلومات عن أي ركن من اركانه .
لقد قدر لي ان أعرف ابا زيدون عن قرب ، وأن أكتسب من خبراته في مدرسة جريدة الجمهورية ثمانينات القرن الماضي ، كما التقيته غير مرة في الدوحة بعد مغادرته اليها ، وكنت اتصل به مرات عديدة للاستئناس بارائه في احداث رياضتنا ، لنشرها في المطبوعات التي عملت فيها كالمشرق والمستقبل وغيرهما ، وقد زاد ذلك من إعجابي به ، وكنت من الذين أنصتوا له باهتمام وهو يتحدث عن اللحظات التي سبقت ورافقت وأعقبت الحلقة الاخيرة من برنامجه الرائع التي ظنناها إحتفالية ، فاذا بها تتحول الى وداعية ، وعن مواضيع اخرى استاثرت بنصيبها من الاهتمام. رحل البدري جسدا ولكن اسمه سيظل يتردد على الالسن ، انموذجا للابداع والتميزاللذين مكناه من التربع في قلوب مئات الالاف من الذين اتخذ تعبيرهم عن تقديرهم العالي له صورا شتى ، وهم الذين ماأنفكوا يستذكرونه في معظم المناسبات ، ليتحدثوا عن امكاناته وخبراته ومناقبه ، لابل ان بينهم من اختار “حلاق اشبيلية ” ، نغمة لهواتفه الخلوية يطلق بها العنان لاستعادة ايام خالدة في الذاكرة ، عصية على النسيان.
رحمك الله ابا زيدون ، وأسكنك الفسيح من جنانه ، وألهم محبيك – وهم كثر- الصبر والسلوان ، وانا على فراقك لمحزونون .