لعلنا لا نبالغ بالقول: إن أزماتنا جراء خلل في علاقة الاستقرار بالحرية، وسيادة مفهوم الاستقرار على حساب الحرية، بينما النخب الاجتماعية تسعى للحرية دون الأخذ بعين الإعتبار لقواعد الاستقرار السياسي والاجتماعي، وهذا خلل يؤدي الى مشكلات وأزمات، في إجراءات ظالمة لا تحدد سقوف الحرية وحقوق الإنسان، وتحكمها كوامن القوة والحروب الداخلية، مثلما ديمقراطية لا تراعي قواعد اللعبة وثوابت الوطن، وتفضي الى صراع يضيع الاستقرار ويُضائل فرص الحرية والديمقراطية، دون تنظيم حاجة الاستقرار مع متطلبات الحرية.
تشير معطيات المشهد السياسي الدولي، الى أن الاستقرار السياسي لا يمكن تحقيقه بالقمع والغطرسة وتجاهل حاجات الشعوب وتطلعاتها المشروعة، ولم تكن الترسانات العسكرية وسيلة استقرار أو إرضاء شعب، وإنما وسيلة للزهو، وربما زيادتها لقمع شعبها أكثر من استخداماتها الخارجية، وفي المقابل نجد دولًا لا تمتلك أسلحة عسكرية ضخمة، ولا مؤسسة أمنية متطورة، إلا أن استقرارها صلب ومتين، وقادرة بإمكاناتها الذاتية من مواجهة الأزمات ومقاومة المؤامرات، وحفظ استقرارها وأمنها العام.
لا يأتي الإستقرار بالقوة وإنما وليد تدابير سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، تجعل من أبناء الشعب شركاء في الحفاظ على الأمن والسهر على استقرار البلد، وثقة متبادلة بين السلطة والمجتمع وإشراك كل الشرائح في البناء والمسؤولية. ولذلك نجد أن الدول المتقدمة عسكريًا وأمنيًا والمتخلفة سياسيًا، هي التي يهتز فيها الاستقرار السياسي لأبسط الأسباب والعوامل، أما الدول التي تعيش حياة سياسية فعالة، وتشترك قوى المجتمع في الحقل العام وفق أسس ومبادئ واضحة، هي الدول المستقرة والمتماسكة والتي تتمكن من مواجهة كل مؤامرات الأعداء ومخططاتهم.
يتحقق الإستقرار بمستوى الرضا والثقة بالحياة السياسية، التي تفسح مجالاً للطاقات والكفاءات في صناعة الحياة العامة، ويأتي بتنافس المشاريع البناءة، لا بلائحة الممنوعات التي يقع الشعب ضحيتها، وجرب العراق النظام الشمولي، الذي يقمع ويحارب مصالح الناس، والدول القمعية مهددة أكثر بأمنها واستقرارها، ويضاعف أسباب الانفجار السياسي والاجتماعي، وهذا يحتاج الى إعادة صناعة رؤية، ووجود مصالح حقيقة بين مشروع السلطة والمجتمع، وبلورة مشروع وطني متكامل لانسجام السلطة والمجتمع، والحكومة التي لا ثتق بشعبها، فهو لا يثق بها، وقوة الشعب من قوة نظامه السياسي ومناخاته المناسبة، وتوفير الحريات السياسية والثقافية، والاستقرار يأتي بالحصول على الحقوق لا بالتضحية بحريات المواطنين، والدول التي تنتهك فرص ممارسة الحرية والديمقراطية، ذاتها تعاني من أزمات سياسية واقتصادية، وبدون معادلة متوازنة بين الاستقرار والحرية، بين السلطة وحقوق الإنسان، لن يتمكن المجتمع من الحصول على الاستقرار والأمن.
تفشل كل محاولة لفك الارتباط بين الاستقرار والحرية أو السلطة وحقوق الإنسان، ولا يمكن الحصول على الاستقرار الحقيقي بانتهاك الحقوق وتكميم الأفواه، الذي سيزيد من أسباب الاضطراب والفوضى والتمرد، ولا حرية بدون استقرار ولا استقرار بدون حرية تسمح للمواطنين في المشاركة في صناعة حياته.
العلاقة الايجابية والدينامية بين الاستقرار والحرية، هي بداية صحيحة للخروج من الأزمات الراهنة بأقل خسائر ممكنة،وهنا يتطلب أن تلتفت النخب السائدة إلى متطلبات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومن قوى المجتمع الأخرى أن تأخذ بعين الاعتبار وتحترم حاجات الاستقرار السياسي والاجتماعي، وتحقيق متطلبات الحرية، دون دفع الأمور إلى الفوضى والصراعات المفتوحة، وتحترم قواعد الاستقرار دون التحجر والجمود والتكلس.
إن العلاقة المتبادلة وتقسيم الأدوار، يفوق استخدام القوة أو زيادة القوة العسكرية والتشريعات الصارمة، وبذلك يكون تفاعلًا إيجابيًا يشعر المواطن في دوره في الإلتزام بالقوانين وتشعر الدولة بأهمية دورها، ولا بديل من منظمات مجتمع مدني أو فرعيات تنقص من قيمة تطبيق القانون، الذي يشعر المواطن بدوره وإنها الحامي له والضامن لحقوقه، وهذا بحاجة الى مبادرات إصلاحية، ومرحلة سياسية قوامها توفير حقوق الشعب والسماح لحرياتهم التي لا تتعدى حريات غيرهم وصيانة حقوق الإنسان.
المطلوب علاقة تفاعلية ودينامية بين متطلبات الحرية وحاجات الاستقرار، لكي ينطلق المجتمع الى التغيير الطوعي، عبر إعادة تشكيل الحياة السياسية بحيث يتسنى لجميع قوى المجتمع وتعبيراته من المشاركة في بناء الوطن وتعزيز وحدته الداخلية وتمتين أواصر العلاقات بين مختلف المكونات، والحاجة الى حزمة إجراءات، وبلورة أطر المشاركة الشعبية، وبناء خطوات إصلاحية متراكمة وعمل وطني متواصل، وأزالة عوامل الضعف والخلل.