في مؤتمر علمي حول الدستور العراقي ، أنبرى زميل لنا من بقايا النظام السابق ممن يأنون ويحنون على أيام البعث المظلمة ، أنبرى بتحميل الدستور عبء الانسداد السياسي ، والتراجع العمراني ، والركود الاقتصادي ، وازدياد معدلات البطالة ، وتفشي الأمية ، وانتشار المخدرات ، وشيوع ظاهرة العنف ، وارتفاع معدلات الطلاق ، وضيق الشوارع ، وازدياد أعداد السيارات ، والعطل الذي لحق بسيارته وهو يتوجه لحضور أعمال المؤتمر ، واللافت أن زميلنا الموقر يدعي الأعلمية في حقل الاختصاص ، والنبوغ في مجال الدراسات الدستورية ، حتى وسم المسكين بداء العظمة ، فبادرت بسؤاله بعد انتهاء مداخلته الأفلاطونية ، وخطبته الجنجلوتيه ، التي رعد فيها وزبّد ، وارتجف وتوعد ، وجعجع وصعّد ، لكن مداخلته كانت كالجبل الذي تمخض فأنجب فأراً ، فلم تنته جعجعته الى طحين ، لكنه راح يصب جام غضبه على من لم يستطع الدفاع عن نفسه ، دستورنا المسكين الذي تحمل عبء الإخفاق ، ووزر الفشل ، ومسؤولية الانسداد السياسي ، وهو برآء مما نسب اليه ، فدستورنا الأوفر ضماناً للديمقراطية ، والأكثر حماية للحقوق والحريات العامة والفردية ، والأوضح نصاً ومضموناً ، فمبادئه متقدمه ، ومضامينه وافية ، وعبارته دقيقه ، وبالقطع أن ذلك لا يعني خلوه من النواقص ، وتنزيهه من الهفوات ، وكماله من حيث المعالجات ، فالنقص من طبع البشر ، والتعديل ما وجد الا لملاحقة النواقص ومسايرة المتغيرات . نعم أن طابع التوافق لم يغب عن نصوصه ، وربما ظرف السياسة والأمن انعكس على بعض نواقصه ، وطابع الاستعجال بسبب التحديد الزمني انتهى إلى عديد الهفوات ، لكنه يبقى الأكثر تقدماً قياساً لدساتير الإقليم ودول الجوار ،ويقيناً أن ظلم غير المتخصص مقبول مفهوم منطقي ، بحكم عدم التخصص وربما الجهل ، لكن ما لا يفهم ولا يقبل ظلم ذوي الاختصاص ، فأستاذ يدعي المعرفة في حقل الاختصاص ، يُحّمل الدستور مسؤولية الإخفاق في تنفيذ المشاريع ، ومسؤولية نقص الخدمات ، وعبء الجفاف والعواصف الترابية والتغيير المناخي . عجيب أمرك الصامت ، تُنظم وتتحمل مسؤولية الفوضى ، وتبني وتتحمل عبء الهدم ، وتحمي وتتحمل وزر الانسداد . لقد توافق ساسة العراق على تعطيل نصوص الدستور ، وتحريفها ، ولي معانيها ومبانيها ، فكان العيب فيهم لا فيه ، لكنهم الإشكال في المسموع وعالي الصوت ، فصوته عال ، وخطبه مسموعة ، ورأيه منقول ، وأقوال متداوله ، واتهاماتهم جاهزة ، ودستورنا المسكين صامت ، ليس له لسان ينطق ولا حبل صوتي يُسمع ، ولا محامٍ يدافع ، فتحمل مسؤولية غيره ، فحمل ظلم المختص وغيره ، والداخل والخارج ، والفشل والتراجع ، ولا فشل الا فيمن تصدى ، وذلك الذي ادعى التخصص فصب جام انتقاده عليه متجنباً المساس بمن طبق وفشل ، وتصدى وأخفق . وبالقطع أن حمل الأبكم مسؤولية الغير ليس أمر مستغرب ، ليس بلحاظ عدم قدرته على الدفاع حسب ، ولكن لأن البقاء للأقوى ، فالساسة في البلاد حديثة العهد بالديمقراطية أو السائرة على دربها تواً أسمى من الدستور ، وفوق التشريعات ، آمنين غير مسائلين ، محصنين غير مسؤولين ، سامين غير خاضعين ، فالدستور عندهم نص دون روح ، وسيلة لا غاية ، محكوم غير حاكم ، موجه غير موجِه ، أدنى لا أعلى ، سيذكرك دستورنا الجيل القادم ، ويقف يبكي على أطلالك الباحثون ، الطالبون للعلم ، المتبحرون في معانيه ومبانيه، ولكن بعد أن تصبح ماض ، وزائل وملغى ، وبعد أن ينفذ الأسوء ، والمُقيد وخالي المضامين ، ولنا في القانون الأساسي العراقي لسنة 1925مثال ودليل وتجربة ، فقد هاجمه الجهال ، وانتقده المدعون ، وخالفوه المتصدون ، ووقف اللاحقون على إطلاله بعد زواله ، يذكرون مناقبه ، ويظهرون محاسنه ، ويبرزون إيجابياته ، مستذكرين علمٌ ودستورٌ ومجلس أمةٍ ، وحياة ديمقراطية ، ومجلس مُنحّل وحكومة مُقالة ، ولكن كل ذلك لم ينصفه ، فلا قيمة لأنصاف المرء بعد رحيله ، فقانون الكون لا يقبل بعودة الماضي حاضر ، والميت حي ، والمنتهي نافذ ، فعجلة الزمن تدور ومن لا يلحق بركبها يدهس ، والسعيد من استذكر التجربة واتعض بالإرث وقدم الموضوعية على الشخصية ، فظلم اصحاب الاختصاص اشد مرارة ، وسيُذكر دستورنا بعد زواله بكل خير ، وتسجل إيجابيته ، وتُستحضر تأسيساته ، لكن ذلك كله لن تعود له قيمة ، فالأطلال لا تُحيي الموتى ، ولا تبعث فيهم الروح .