شهدت فترة تصدي السياسي العراقي الراحل عبد العزيز الحكيم، ارهاصات ومنعطفات خطيرة، منها ما يتعلق بحداثة التجربة السياسية، وآخر يتعلق بالثقة بين الأطراف الممثلة للنسيج الاجتماعي.
لا يختلف اثنان عن دور الحكيم آنذاك ومحوريته، في وضع الأسس العامة للعملية السياسية، التي جاءت عقب إسقاط نظام البعث، على يد التحالف الدولي، تلك العملية التي ملأت الفراغ السياسي الحاصل، والتي قوبلت بتباين ردود الأفعال حيالها، من المحيط الاقليمي آنذاك، ناهيك عن القوى المعبرة عن توجهات الداخل العراقي المختلفة.
الحديث عن تعاطي الجهات السياسية داخل العراق مع متبنيات الحكيم، تأخذ حيزا من الاهتمام، اكثر مما كانت عليه تصورات المحيط الاقليمي، الذي وجد نفسه مرغما على الإعتراف بالحالة العراقية الجديدة، كواقع لا يمكنها عدم التعامل معه، خصوصا بعد دخول العامل الاقتصادي والامني على خط الأحداث.
تعرض عبد العزيز الحكيم إلى شتى الاتهامات، الناتجة عن قصور فهم الجهات التي كانت تهاجمه، ناهيك عن عدم ادراكها للحقائق، التي كان الحكيم على احاطة تامة بها، لما له من نظرة استشرافية، في تحليل الأمور ومعرفة المخاطر ووضع المعالجات.
ان طبيعة علاقة اقطاب المعارضة العراقية آنذاك، والتي كانت تشهد نوعا من الانسجام والاتفاق على وحدة الهدف المتعلق بإسقاط النظام، ساهم في عكس صورة مميزة من التفاهم بين القوى الكردية وبين الحكيم، وهو ما يلحظ بعدم تسجيل اي من حالات، النقد والاتهام او التصريحات التي توحي بذالك، إضافة لقناعة الجانب الكردي وتأييده للمفاهيم التي كان ينادي بها الحكيم، وعمل على تضمينها كبنود دستورية، كالفيدرالية واللامركزية في ادارة الحكم.
الإختلاف بين القوى السنية وبين الحكيم ناتج عن فهم خاطيء، ساهم الإعلام المؤدلج في ترسيخه، بذهنية المواطن السني، الذي كان يعيش هاجس التقسيم، الذي سيتعرض له البلد، فكان الخلط بالمفاهيم هو سيد المشهد، إضافة لفشل النخبة المتصدية في المحافظات الغربية، في تفكيك تلك المفاهيم وتأثير عقدة الفوقية، التي نجح الإعلام العربي في تأصيلها في النفوس، فجعلها منشدة للتغني بالمجد الزائف، الذي بنته الأنظمة المتعاقبة، على حساب كرامة ومصير المواطنين من بقية المكونات.
في الساحة الشيعية كان التنافس على زعامة المشهد، هو الطاغي على مجريات الوضع السياسي، وهو ما حفز باقي المسميات الفكرية والسياسية، للبحث عن موطيء قدم في المعترك السياسي، بغية التحكم بمن يمثل محافظات الوسط والجنوب، ولو كانت المبررات غير واقعية ولا تمت للحقيقة بصلة.
احدى الدعايات التي تم استثمارها من بقية المنافسين، والتي استهدف شخص الحكيم في وطنيته واتهمته بشتى الاتهامات، كانت حول تأسيس نظام للحكم في العراق، شبيه بنظام الممالك والإمارات الخليجية مما يعني _ حسب تفكير تلك القوى أن ” ال الحكيم “، هم العائلة الأوفر حظا لقيادة البلد، بنظام الوراثة المعمول به خليجيا، اضافة لتهمة التقسيم الناتجة عن مطالبته باقرار مشروع الفيدرالية، وهو ما سبقت الإشارة اليه من قصور في تفكيك المفاهيم، ومحدودية الإدراك الذي كان مهيمنا، على مزاج أغلب الفعاليات الناشئة حديثا وتوابعها.
بعد مضي عقدين من الزمن، ونتيجة للمتغيرات التي طرأت على تعاطي الأطراف المتصدية، للعمل السياسي في العراق، وتأثير الأحداث المتسارعة في تغير القناعات، وجدت تلك الجهات نفسها في تناقض يستدعي التأمل، بعد عودتها لتبني أغلب المشاريع، التي طرحها الحكيم سابقا، والتي تعرضت للتشويه والهجوم من قبل نفس تلك الأطراف.
ان ميول تلك الجهات لتبني رؤية الراحل، يعد شهادة بوطنيته ودقة قراءته للمشهد، وتشخيصه الواعي لمشاكله ونضوجه في وضع الحلول الملائمة للمرحلة “وان جاءت تلك الشهادة بعد فوات الأوان ”
كثيرة هي المصاديق التي تثبت ما سبق، والمتعلقة بتبني المعترضين على الحكيم سابقا، بعد تبني رؤيته في السنوات اللاحقة.. فعلى سبيل المثال اثيرت دعوات تطالب بإقامة الأقاليم، باعتبارها نصا دستوريا من قبل العرب السنة، كون المزاج العام وبدفع خارجي، يعتقد انها حل مثالي للخروج من سطوة المركز، وهيمنته على القرار السياسي، وحظيت تلك الدعوات بتأييد بعض الأطراف من المكون الشيعي، الذي كان يمثل الصوت الأعلى في رفض رؤية الحكيم في حينها!
دعوته الى تشكيل اللجان الشعبية جوبهت برفض شديد، بحجة تحجيم دور القوات الأمنية، واشراك تشكيلات ميليشاوية في الملف الأمني، لكنها اصبحت ضرورة لابد من الاعتماد عليها، بعد اخفاق المؤسسة الأمنية الرسمية، في مواجهة عصابات داعش، التي استباحت مدنا عدة، والتي تجسدت بالدعوة بتأسيس الحشد الشعبي، الذي جاء عقب الفتوى التاريخية للمرجعية الدينية في النجف الأشرف.
ان التقارب في العلاقات الذي طرأ مؤخرا، والعمل للتفاهم بين أمريكا وإيران، يعد من ثمار الدعوة التي اطلقها الحكيم، لأبعاد العراق عن الصراع الدائر بين الطرفين، وهي مبادرة اخترقت الصمت السائد آنذاك، كونه سبق جميع الشخصيات القيادية المعاصرة، في التنبه لضرورة تبني تلك الفكرة، التي غابت عن اذهان المتصدين، ناهيك عن دور العراق في ترطيب الأجواء بين السعودية وايران، والتي شهدت مؤخرا تفاهما على مستويات معتبرة، من شأنها ان تفضي لمزيد من التقارب، الذي سيلقي بنتائجه الإيجابية على المنطقة برمتها، وينعكس على تسوية جميع الملفات الساخنة في الشرق الأوسط، وبطبيعة الحال فإن العراق أول المتأثرين بتلك النتائج، في حال ذهابها لأي من الاتجاهات.
هذا يثبت ان النقاط الحساسة التي اثارها الحكيم الراحل، من قبيل دعوة الدول الإقليمية والمؤثرة في المشهد العراقي، الى الحوار وتبني رؤية المرجعية وتشخيصها للمصلحة، كمعيارا للعمل السياسي، واللامركزية في ادارة الحكم وحفظ حقوق المكونات، مع مراعاة نسب الثمثيل وغيرها _كلها ملفات حساسة ومهمة، كانت سببا للتشكيك في وطنية الحكيم ونزاهته وحرصه على حفظ مصالح البلد.
لكن تبنيها والمطالبة بها، من قبل الجهات التي كانت تختلف معه، يؤكد بما لا يقبل الشك، ان تلك الجهات كانت تختلف معه سياسيا، لكنها لا تختلف عليه، بدليل تبنيهم لمواقفه التي كانت حسب تصورهم تخدش بوطنيته وولاءه للوطن.. وهو ما صرح به عدد لا يستهان به من ممثلي تلك الجهات والناطقين بأسمها.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *