حين اجتاحت موجة الغضب الشوارع الفرنسية، راحت أرصفة الشانزليزيه والمونبارناس تحج الى برج ايفل وقصور الرئاسة الفرنسية للخلاص من وطأة التمديد للعمر التقاعدي الى سن 64 عاما، فقد ارسلت تلك المشاهد العنيفة لإقدام الشرطة الفرنسية في ضرب المحتجين المسالمين رسائل جلية المضامين على ان العالم من حولنا يتطور ويتقدم ويتغير، لكن الذات الانسانية مازالت لا تؤمن الا بمبدأ الحرية ما استطاعت اليه سبيلا.
هناك فارق وبون شاسع بين الحرية وبين العدالة، فرسالة الماركسيين والشيوعيين الى العالم كانت متخمة بمفاهيم العدالة والمساواة والتحرر ، لكنها اجهضت الحرية الفردية في روسيا وكممت الافواه وسجنت الادباء واعتقلت الناشطين ورفعت شعار انّ الحزب هو عقل وضمير الامة ! وتكرر الامر في فرنسا عبر خطاب الجمهورية، التي تضمنت الامتزاج الاسطوري بين روح القانون وبين خلق عالم حر متعال في نظرته الانسانية والثقافية ، وان كان ثمن ذلك ضرب اليمين الفرنسي والاوروبي معا على حد سواء ، وهو ما فعله هتلر في التحول من بعث الامة الجرمانية ، لتصبح بعد الحرب العالمية الثانية دولة مارقة محاربة ومقسمة من القلب الى الاطراف حتى باتت المانيا بلا شعب طموح وبلا احلام انسانية مستقبلية، رغم الارث الهيغلي النيتشوي واساطير الادب والموسيقى والمعرفة الشاملة، وفعل ذلك عدة قادة عرب حين استعبدوا شعوبهم واذلوهم، ولم يتركوا للشعوب العربية سوى الموت وتهم الخيانة او الهروب عبر البحار ملاذا
ولم تكن حصة التكفيريين والمتأسلمين ادنى في القتل والتشريد والتنكيل ، بل كانت اهم السطوة الكبرى في تدمير مرتكزات الشعوب وسحق الارث الحضاري وهزيمة الانسان في عقر داره
التيارات القومية والحزبية والليبرالية البرجوازية والتطرف الديني بهرطقاته الشاذة لم ولن تصنع مستقبلا للشعوب الطموحة ، ولم يعد البرلماني ورجل الدين ورجل السياسة ماهرين وماكرين ، كما كانوا من قبل ، لأنّ عالم اليوم هو عالم المكاشفات وعالم الانفتاح الحر ولا سبيل الى اجهاض حريات الشعوب
بل يكفي خبر تلفاز صغير وهاتف نقال في كشف وحشية المدعين وسلبية الدولة المارقة وعدم جدوى أي نظام كان
الحرية لاتأخذنا عنوة دوما ، بل هي مران وممارسة حضارية تتطلب خضوع وتفهم المؤسسات الدستورية والسلطات كافة لجعلها ممارسة طبيعية حيث انها السبيل الوحيد لحفظ كرامة الانسان وخلق مجتمع مثالي ومبدع بعيدا عن البرامج الاستراتيجية والخطط المادية ذات المساس بحرية الانسان التي هي الجوهر والهوية الحقيقية وبلا مزايدات مستقبلية على عبودية بني البشر وجعلهم طما للبرامج الشيطانية التي تتخذ من الامراض القومية والتطرف الديني والامنيات الفردية اغطية لها لسحق كرامات الشعوب فالحرية في العمل هي ذاتها خارج العمل والحرية الدينية هي ذات الحرية السياسية والمسافة بين القصر الحاكم والشارع الناطق تحددها هراوات الشرطة واغاني الثوار
عباس الحسيني
اريزونا