اشرت في مقال سابق الى ان التدهور في الاقتصاد العراقي تسارع مع “الانزلاق الحاد نحو الاقتصاد الريعي بعد اعلان النظام الجمهوري وتحويل العائدات النفطية نحو النفقات التشغيلية للدولة”. قبل ذلك كانت العائدات النفطية تحوّل الى مشاريع البنية التحتية الضرورية لبناء اقتصاد متين.
وكان هذا احد مظاهر الخلل الحاد في المركب الحضاري للمجتمع العراقي ومنظومة القيم العليا الحافة بعناصره الخمسة: الانسان، الارض، الزمن، العلم، العمل، والتي اخذت بالتراكم منذ ذلك الحين لتصل الى مستوى خطير في اللحظة الراهنة.
ومع ان الانظمة المتلاحقة والاحزاب العراقية قدمت طروحات لانتشال الاقتصاد العراقي من ازمته الا انها فشلت في تشخيص جوهر المشكلة وبالتالي تشخيص الحل المناسب فيما اسهمت الحروب العبثية للنظام البعثي والتخبط الاقتصادي للحكومات التي جاءت بعده في مفاقمة الازمة وتعسر مسك الخيط المؤدي الى حلها. ومن اسباب ذلك الخلل البنيوي في الدولة العراقية. “فالحقيقة، كما كتب لي الصديق حميد رياح، ليس هنالك دولة واضحة المعالم في العراق. تقوم الدولة على مؤسسات راسخة تنتج رؤية استيراتيجية شاملة للدولة تتمثل في الدستور والتوجه السياسي والاقتصادي وفعل الحكومات. ولديها مؤشرات تراقب وتتابع عمل الحكومات”، ولكن للاسف ليس لدينا شيء من هذا القبيل حيث “لا يوجد عندنا دولة ذات مؤسسات مسؤولة عن تحديد الخلل ودراسته وسبر اغواره”.
وكنت اقترحت في مقال سابق بعضا من الخطوات والاجراءات التي بامكان الحكومة القيام بها لمعالجة الوضع. لكن الصديق علاء الجعفري لاحظ مشكورا و عن حق ان النقاط المذكورة “لم تستوعب حالة الانزلاق الحاد نحو الاقتصاد الريعي”. وهذا صحيح.
فالحل الجذري يكمن دائما في معالجة الاختلالات الحادة في المركب الحضاري ومنظومته القيمية التي تؤكد على العمل الانتاجي واستثمار الطبيعة والتنمية المستدامة وتعشيق النشاط الاقتصادي بالتقدم العلمي والتكنولوجي وخلق الحوافز، اضافة الى حسن استثمار الثروات الطبيعية والعدالة في توزيع الثروة وغير ذلك من القيم الحضارية العليا.
وفي مقدمة هذه الاختلالات كما قلنا: الاقتصاد الريعي، واذاً فان معالجة الوضع الاقتصادي تكمن في التحرر من الاقتصاد الريعي والانتقال الى الاقتصاد الانتاجي.
لكن حل مشكلة الاقتصاد الريعي لا يتم بشكل سريع وسهل، لأنه يتعلق بتحولات قومية وثقافية وتنموية عميقة في المجتمعات المعنية. وتستهدف هذه التحولات اعادة بناء المركب الحضاري ومنظومته القيمية باتجاه الاقتصاد الانتاجي بما في ذلك خلق الدوافع وتهيئة الظروف الموضوعية للمواطنين للتوجه نحو العمل الانتاجي وعدم الاعتماد على التوظيف في الدوائر الحكومية، اولا، واعادة توجيه العائدات النفطية بشكل تدريجي نحو الاستثمار الانتاجي والتنمية الاقتصادية وتقليص مساحة الميزانية التشغيلية التي تستهلك العائدات النفطية في الاقتصاد الريعي، ثانيا. وغني عن الذكر ان النظام التربوي، والقطاع الخاص، والضمانات الوظيفية والمعيشية، عوامل مهمة في عملية التحول نحو الاقتصاد الانتاجي.
تتطلب عملية التحول الاقتصادي توفر رؤية او نظرية اقتصادية تنطلق منها اجراءات الدولة التشريعية والتنفيذية. ومع ان الادب الاقتصادي التقليدي كان يتحدث عن خيارين او ثلاثة هي: الاقتصاد الاشتراكي، والاقتصاد الرأسمالي، والاقتصاد الاسلامي، الا ان الخبرة العملية للبشرية تجاوزت الان التوصيفات الايديولوجية وانتهت الى توليفة اقتصادية تحقق النمو الاقتصادي المستدام (لاحظ وثيقة الامم المتحدة للتنمية المستدامة في عام ٢٠١٥)، كما تحقق العدالة في التوزيع والتكافل الاجتماعي عبر انظمة الضمان الاجتماعي social security المعمول بها في العديد من الدول التي تسير في طريق الدولة الحضارية الحديثة.
وعلى المستوى التفصيلي يمكن الحديث عن اتخاذ بعض الإجراءات الحكومية والاقتصادية مثل: توجيه الاستثمارات لتشجيع الانتاجية وتنويع الاقتصاد، و تعزيز التجارة الخارجية والتعاون الإقليمي، و تطوير الزراعة والصناعة وتحسين التعليم والصحة والبنية التحتية، و توفير فرص العمل وتنمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة، و تحفيز الابتكار والتكنولوجيا وتطبيق معايير بيئية واجتماعية مستدامة.