من جديد يؤكد تأخير إقرار موازنة ٢٠٢٣ والسجالات التي جرت بشأنها، هشاشة الاتفاقات السياسية التي تشكلت في ضوئها حكومة السيد السوداني. آنذاك أعلن عن اتفاق قوى إدارة الدولة على برنامج، اعتبر جزءا من منهاج الحكومة الذي اقره جميع النواب. وهم النواب أنفسهم الذين ضيّعوا على المواطنين ما يزيد على ٦ اشهر، وهم يناقشون ما افترض انه موضع توافق وفقا للاتفاقات السياسية، التي تغنّى بها البعض عند عقدها وعدها النموذج المطلوب لتشكيل التحالفات العابرة للطوائف؟!
يحصل كل هذا التأخير غير المبرر فيما المواطنون ينتظرون إقرار الموازنة، لعلهم يجدون خيطا من الامل يتعلقون به للخلاص من واقع الحال المزري، خصوصا للاغلبية التي لم تشملها “بركات” التعيين الاسترضائية والمعروف من استحوذ عليها، والتي هي ابعد ما تكون عن معالجة قضايا الاقتصاد الجدية، ومنها توفير فرص عمل للملايين عبر التوجه الى تنمية حقيقية، وتنويع الاقتصاد العراقي واستنهاض قطاعاته المنتجة سواء ما يعود منها الى القطاع العام ام الى القطاعات المنتجة الأخرى ؛ الخاص والمختلط والتعاوني، وليس تضخيم جهاز الدولة كما هو حاصل الان، وما سيكون له من تداعيات مستقبلية ذات صلة وثيقة بالايرادات المتأتية من النفط، والتي لا يمكن التحكم بها جراء تقلب أسعار النفط.
من المؤكد انها ليست الموازنة التي ينتظرها الناس، وقد كشفت دراسات جادة مدى التضخم الكبير في أوجه الانفاق غير المبرر، ومن ذلك تضخيم الأجهزة الأمنية والعسكرية والمؤسسات ذات الطابع العسكري، والذي يشكل توجها ضارا يمتص أية مبالغ يمكن توفيرها لاطلاق مشاريع إنتاجية، كذلك يؤدي الى المزيد من عسكرة المجتمع غير المقبولة بل والمرفوضة، والتي تقف خلفها اجندات سياسية.
لقد اصبحت معروفة الان الثغرات الجدية في هذه الموازنة، ومع ذلك حوّلها المتنفذون والمتصارعون الى أداة ضغط وابتزاز وليّ اذرع . وهنا يتوجب القول ان كل حديث عن ان تأخير إقرار الموازنة ذو طابع فني او مالي او اقتصادي، هو هراء. فالتأخير سياسي، مثلما هي الموازنة ذاتها، ويكمن خلفه صراع على الحصص حاضرا وفي المستقبل أيضا.
وبالعودة الى تلك الاتفاقات السياسية الهشة التي شهدنا الكثير منها منذ ٢٠٠٣، والتي سرعان ما يتخلى عنها الموقعون عليها، فانها لن تقود الى بناء بلد يعيش أبناؤه اليوم حالة تردي الأوضاع العامة وسوء الخدمات وفقدان الأمان الشخصي للمواطن، وضعف إمكانية انفاذ القانون والفساد المستشري وغيرها من العناوين، التي صار حتى المواطن البسيط يرددها ناهيك عن المتابعين الجادين.
نعم يمكن لأعداد من المواطنين في ظل الدمار والخراب والركض لتأمين لقمة العيش اليومية ومعها كرامة الانسان، ان تتفاعل إيجابا مع هذا الاجراء او ذاك، ولكن يخطيء جدا من السياسيين، الداخليين والخارجيين من يبني على مثل هذه الخطوات المنفردة استنتاجات متسرعة.
اليقين ان حالة الانعطافة الكبيرة لن تحصل بشارع يبلط هنا، او مستشفى يرمم هناك، او حالة فرح عارم لكون أسئلة الامتحانات لم تسرق او تسرب لحد الان. فرغم أهمية هذا وغيره، فانه ليس بدء مسيرة جديدة، او خطوات على طريق التغيير الذي تطالب به غالبية المواطنين، ولا هو الاصلاح الحقيقي الذي كما طالب به مجلس الامن الدولي، ما دام النهج الذي تدار به الدولة ويحكم وفقه البلد وتقسم به الناس الى “كانتونات” باقيا، وما دام هناك إصرار من القوى الحاكمة، المحتكرة للسلطة والمالكة للمال والسلاح والاعلام، على التشبث به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ