عرفنا بعد عمر طويل بمقاييس الزمن ، وقصير بمقاييس الحياة ، وكأن ما حدث قبل خمسين عاما مر كالأمس ، لدرجة يقول الناس معها انهم لم يفهموا من الحياة شيئا لسرعتها ، رحلة أشبه بلمح البصر ، ومع ما في هذه اللمحة من دروس بليغة الا ان المتعظين منها قلائل ، لا العاديات تخيفهم ، ولا الموت يرعبهم ، يواصلون أمسهم بيومهم وكأن شيئا لم يكن ، وغالبا ما نتعلم من دروس الحياة بعد فوات الأوان ، والا لو عاد بنا الزمن ، وهذا مستحيل ، لتغيرت الكثير من مسارات حياتنا ، ولكن هيهات للزمن أن يعود ، وللبدن أن يرجع ، وللروح أن تفوح .
ومع ان الثقافات مختلفة بين المجتمعات ، لكن عرفنا من واقعنا ان العلاقات بين الناس ثلاثة أنواع ، تحكمها في التصنيف معايير محددة ، وان شخصيات الأفراد وسلوكهم واتجاهاتهم وآرائهم تتشكل في ضوء طبيعة تلك العلاقات . فالكثير منها تُقام لاتقاء شر الآخرين ، وانت تعرف خير المعرفة ان هؤلاء ليسوا أهلا لهذه العلاقة ، ولا يستحقون أن تلقي السلام عليهم ، ومن البؤس أن تجالسهم ، ومن العيب أن يراك الناس تمشي معهم ، ولكن العدوان الذي بدواخلهم يجبرك على علاقة تتقي بها شرا مستطيرا يمكن أن يطولك في حال بقائك بعيدا عنهم ، نعم علاقتك بهم لا تعدو صيغ المجاملة ، وبالتأكيد انك لن تذهب عميقا فيها ، ولكن يصدق عليك قول المتنبي العظيم ( ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى .. عدوا له ما من صداقته بد ) ، واذا كان المتنبي قد قال قولته قبل أكثر من ألف سنة ، فهذا يعني ان الركود يخيم على حياتنا ، والقيم التي تضبط اتجاهاتنا ثابتة الى حد كبير بالرغم مما شهدته الحياة على مدى القرون الماضية من تطورات بعضها كان مذهلا ، لماذا هذه المراوحة في المكان ؟ هذا هو السؤال الذي تحتاج اجابته الى مجلدات .
من العلاقات تلك التي تأتي تحسبا لاحتياج الآخر ، فقد تضطرك تقلبات الدنيا وظروفك الشخصية الى توقع الاستعانة بمن هو قادر على تخليصك مما انت فيه ، فالبيئة التي تحيا فيها يشوبها عدم الاستقرار ، وانها تتقلب بما لا يخطر على بال ، فيدعوك ذلك الى صداقة بعض المتمكنين ماليا او الأقوياء اجتماعيا ، مع انهم غير جديرين بالصداقة ، وانك غير مقتنع بهم ، اذ غالبا ما يلجأ الناس الضعفاء اجتماعيا او ماليا لمثل هذا النوع من العلاقات التي تضفي بدورها خصائص معينة على شخصيات الأفراد ، لذلك ترى ثقة الضعفاء بأنفسهم مهزوزة ، بينما ثقة الأثرياء او الأقوياء اجتماعيا على العكس منها ، وان الآخر أفضل منهم حتى وان كانوا هم الأحسن في جوانب معينة ، وغالبا ما تنتقل هذه الخاصية بالوراثة الى الأجيال اللاحقة ، وهذا ما نجده لدى بعض الشرائح الاجتماعية ، العوز واحتمال الاحتياج للآخر يشكل مجتمعات هشة نفسيا وهزيلة اجتماعيا.
لست أبالغ ان قلت : العلاقات التي تأتي لوجه الله تعالى ، أي غير المرهونة بمصالح مادية او معنوية هي الأقل ، بينما غالبية العلاقات الاجتماعية تدور في فلك النوعين الآخرين ، ويفرز هذين النوعين الكثير من الأمراض الاجتماعية كالنفاق الاجتماعي والكذب والتملق وازدواجية الشخصية ، واشهار رأي زائف ، و اخفاء رأي حقيقي ، وربما يجسد السؤال الذي يتميز به العراقيون عن غيرهم من الأقوام : ( شكو ماكو ؟ ) هذه الحقيقة بشكل واضح ، ( فالماكو ) هو رأي كامن لا يبديه صاحبه الا عندما يكون في مأمن ، ولأصحاب الثقة تحديدا .
أظن ان المجال الاجتماعي بحاجة لعمل علمي أكثر من المجالات الأخرى ، يُراد أن نغوص في عمق الظواهر الاجتماعية التي نلحظ استفحال بعضها ، لأن راهن الانشغال ليس أكثر من ملامسة السطوح ، لذلك نموها يتسارع وبشكل مرعب بدءا من ظاهرة الطلاق ووصولا الى انهيار المنظومة الأخلاقية ، وليس بوسعنا سوى القول : انتبهوا رجاء .