أكيد لم تطرق أسماعكم الكريمة كلمة ( الفاينلية ) التي لا جذر لغوي لها في معجمنا العربي ، كما انها ليست مصطلحا راسخا في المجالات المعرفية المختلفة ، او مذهبا في مدرسة فلسفية من التي نعرفها ، بل هي كلمة من بنات أفكاري أعمل على أن أنحت منها مصطلحا ، وأتطلع الى أن يشيع بين الجمهور لأسجل سبقا في التعبير عن حالة صارت ظاهرة بعد أن كانت محدودة . هذا الكلمة الجديدة مازالت في طور التكوين ، اذ لم تدخل الى ميدان التداول الاجتماعي ، ولم ترق الى أن تكون مصطلحا الا بين الأصدقاء وبعض المعارف ، بمعنى ان الناس لم يتفقوا عليها بعد ، ذلك ان من بين معاني المصطلح هو اتفاق الناس على دلالات كلمة معينة ، ولذلك لا تعد مصطلحا تلك الكلمات التي تختلف دلالاتها بين فرد وآخر .
وترجع الجذور الأولى لهذه الكلمة الى تلك الطالبة التي تدرس في كلية أهلية وتقضي غالبية وقتها في النادي الطلابي ( الكافتيريا ) ، ولا تدخل الى الدرس الا في أيام الامتحانات ، او عندما تكون ( الحديدة حارة ) عند صدور انذارات غياب الطلبة ، ومع ذلك فانتظامها في الدرس بين سطر وآخر كما يُقال ، لأن عموم الطلبة أيقنوا ان من النادر أن يفصلون من كلياتهم بسبب الغيابات . ولست أبالغ بقولي ان هذه الطالبة لا تجيد التعبير عن أفكارها اطلاقا ، بل وتخطىء في كتابة اسمها لعدم تركيزها ، وهذا ما أثار استغرابي فاستدعيتها الى غرفتي وطلبت منها هوية الأحوال المدنية ، وعندما سألتها لِمَ لا تكتب اسمها في ورقتها الامتحانية كما مرسوم في هويتها ؟، ابتسمت ولم تعطني اجابة واضحة ، واكتفيت بتحذيرها ، لا يقتصر هذا الوضع على هذه الطالبة فحسب ، بل تشترك به مع الكثير من زملائها.
ذات مرة أوقفتني في ممر الكلية وسألتني : ( استاذ متى الفاينل ؟ ) ، وتقصد (بالفاينل ) الامتحان النهائي ، وهي كلمة انكليزية ، فأجبتها بسخرية : يا فلانة تستخدمين كلمة انكليزية وانت تخطئين في كتابة اسمك ! .
من هذه الكلمة صارت لدي رغبة لنحت مصطلح جديد وتعريقه ، أي جعله عراقيا اسوة بالكثير من المصطلحات الجديدة التي تعود بجذرها الى كلمات انكليزية ، وصارت تشغل مساحة في التداول اليومي خصوصا بين الشباب مثل : اليوزرية ، وتعني المستخدمين ، واليوتيوبر ، أي صانع المحتوى على موقع اليوتيوب وغيرهما .
ويندرج ضمن ( الفاينلية ) الطالب الذي سألته أثناء المراقبة الامتحانية عن المادة الدراسية التي سيمتحن بها ، فتعذر عليه معرفة اسم المادة ، ولم يأت ذلك من باب النسيان ، بل من عدم المعرفة ، فذكر لي اسم مدرس المادة فقط ، فكيف يجيب عن أسئلة الامتحان ؟ .
ولا يختلف هذه الطالب عن طالب الصيدلة الذي وصل الى المرحلة الرابعة ، لكنه يسأل والدته التي لم تحصل على الشهادة المتوسطة عن اسم الدواء الخافض للحرارة . فماذا درس ، وهل حقا درس ؟ .اسئلة أظنها خطرة للغاية ، ويجب الوقوف عندها لمراجعة العملية التعليمية برمتها .
أجلى صور الفاينلية تطالعونها كل يوم من على شاشة قناة ( mbc عراق ) عبر برنامج ( عائلتي تربح ) الذي يقدمه الفنان القدير جواد الشكرجي الذي لولا مهاراته التقديمية لكان البرنامج بلا قيمة ترفيهية ، للأسف الشديد غالبية الذين استضافهم البرنامج لم يتمكنوا من الاجابة عن البديهيات التي تشكل محتوى البرنامج ، والمؤسف ان بعض المشاركين حاصلين على شهادات جامعية أولية وعليا ، وهذا يذكرني بالبرنامج الذي كان يقدمه الكاتب والمثقف السوري شريف الراس من القناة العامة في التلفزيون العراقي في سبعينيات القرن الماضي بعنوان ( مسابقات الساعة التاسعة ) الذي نال شهرة واسعة ومتابعة حثيثة من المشاهدين لثراء معلوماته وأهميتها ، فضلا عن رصانة ثقافة المشاركين فيه . الظاهرة ( الفاينلية ) تتسع سنة بعد أخرى من دون أن تحرك مؤسساتنا التعليمية ساكنا ، وأخشى ان لم نتصد لها نتحول الى مجتمع فاينلي.