لم أر او أسمع من قبل ان دائرة حكومية لا ينتهي دوامها ضمن التوقيتات المحددة رسميا ، وان عملها يستمر لحين انجاز معاملة آخر مراجع فيها ، رأيت هذا بعيني ، وسمعته من أكثر من مراجع ، فضلا عن أحد موظفي الدائرة ، هذا بالضبط ما يحدث في دائرة جنسية المهناوية ، هذه الناحية التي تتوسط ثلاث محافظات : النجف الأشرف وبابل الفيحاء والقادسية التي تتبع لها . أشعرني ذلك بسعادة بالغة ، لم تغمرني سابقا مع أي دائرة راجعتها ، بل غالبا او قل دائما دون تردد : ان مشاعر الاحباط والتذمر والملل هي ما يخيم على نفوسنا أثناء مراجعة دوائرنا ، فبتنا نكره الدوائر أيما كره ، ونتهرب منها بما تيسر من أعذار ، الا اذا كنا مجبرين لمعاملة مهمة .
لازال الكثير من مدرائنا وموظفينا لا ينظرون للوظيفة العامة كخدمة ، يحتم الواجب عليهم تقديمها للمواطنين ، ويتلقون مقابلها أجرا مجزيا ، وليس تسلطا على الناس ، ويحسبون ما يُقدم منة ، ومنهم من يذل الناس بتعقيد معاملاتهم ليفروا بجلودهم بحثا عن متنفذ بمقدوره مساعدتهم على قضاء حاجتهم ، اسألوا أي مواطن ، وستسمعون منه أكثر مما أقول .
لا أريد الابتعاد عن موضوعي الذي تحمست للكتابة عنه منذ غادرت جنسية المهناوية التي يحمل مديرها معاملة الضيف القادم من مناطق بعيدة ليقدمه على بقية المراجعين من سكنة الناحية بعد استئذانهم ، وانجاز معاملته بأسرع وقت ، ليتسنى له العودة الى أهله .
ليس هذا ما رأيت فحسب ، بل رأيت شيئا أهم ، وأخجلني ما رأيت ، وعمّق من انتمائي لأهلي ووطني ، وقد تساوى فيما رأيت الموظفون والمراجعون وحتى أصحاب مكاتب الاستنساخ المجاورة ، فبمجرد أن عرفوا بأني ضيف على ناحيتهم حتى توالت دعواتهم الكريمة بتناول وجبة الغداء في بيوتهم العامرة ، الكل دون استثناء بدءا من مدير الدائرة وموظفيها وانتهاء بالناس خارج الدائرة .
بالتأكيد ، ليس غريبا على أهل ( الحسچة ) والشعر العميق والدواوين المدارس هذا الكرم الحاتمي المبهر ، وانت ترى ما ترى ، فكيف لا تعود الى أهلك متفائلا بيومك ، وكلك أمل بالحياة ؟، لقد مسح موظفو جنسية المهناوية وأهلها غيظا متراكما ضد دوائرنا .
وبالرغم من مئات الكيلو مترات التي يبعدها محل سكني عن المهناوية ، لكني لست مترددا من مراجعتها ثانية اذا اقتضت الحاجة ، فقد وجدت في ذلك سفرة ممتعة مع عائلتي للتجوال بين هؤلاء الكرماء . ولو كان الأمر بيدى لكرمت الموظفين أفضل تكريم ، ولو كان في الوقت متسع لقضيت أياما في المهناوية الجميلة بأهلها وليس بعمرانها او زراعتها .
ما أحزنني في هذه الناحية ، انها ومنذ أول مراجعاتي لها قبل ما يقرب من الخمسين عاما ما زالت كما هي ، لم يطلها من العمران شيء ، ولم يتحرر بعض أهلها من الفقر المزمن الذي رافقهم طوال حياتهم ، وقد كان ذلك باديا بوضوح على وجوه الكثير منهم ، كما لم أر من الاعمار سوى تعبيد شارع واحد وهو الذي يربط ناحية الحرية بالمهناوية ومازال قيد الانشاء .
واذا كانت الفلاحة مصدر رزقهم الذي يقوتون به عوائلهم ، فكيف يفلحون ولا ماء في أنهرهم ؟، فالأرض يباب ، وليس فيها حتى ما ترعاه الماشية التي باعها الأهالي لعدم قدرتهم على اعالتها ، مع ان جانبا من رزقهم يقوم على تربيتها .
ناحية المهناوية ومثلها الحرية والصلاحية والقرى التابعة لها تعد من المناطق التي تكاد أن تكون منعزلة ، بحكم بعدها عن مراكز المدن ، وعدم توفر البنى التحتية للنقل والمواصلات ، لذا فان فرص العمل شحيحة جدا ، وتقتصر على ما موجود فيها ، وهو لا يلبي الحاجة اطلاقا ، ما زاد من نسبة بطالة شبابها ، طبعا لا تختلف هذه المناطق عن العشرات من أمثالها المنتشرة في العراق ، ما يتطلب من الحكومة المركزية والحكومات المحلية النظر بجدية للنهوض بواقع أريافنا التي مضى عليها عقود من الإهمال انسانا وعمرانا وزراعة .