ثمة أشخاص يدخلون القلب من لقاء واحد حتى لو كان قصيرًا والتشكيلية المتميزة يسرى العبادي التي رحلت قبل أيام عن عالمنا من هؤلاء . وقد تولّد لديّ هذا الانطباع عندما ألتقيت بها لدى افتتاح مهرجان الواسطي للفن التشكيلي قبل ثلاثة أشهر في مبنى وزارة الثقافة لكن وجهها كان مألوفًا بالنسبة لي لأنني كنت قد رأيتها في مناسبات عامة سابقة.. كان لقاء سريعًا أحسست خلاله برغبة في إجراء حوار صحفي معها لألقي الضوء على تجربتها وفنها . وعندما رحبت بالفكرة بأدب جم ، أخبرتها إنني سأتواصل معها لاحقا.
والحقيقة إنني قد منحت نفسي استراحة إجبارية من العمل الصحفي اليومي بسبب عارض صحي نصحني الطبيب من جرائه بالتقاعد من الوظيفة لتجنّب العمل المكتبي فاضطررت لترك العمل بالجريدة اليومية والاكتفاء بالعمل الوظيفي ومراقبة النتيجة. غير إن الحنين للعمل الصحفي اليومي كان يلحّ عليّ في كل يوم، وما كان أمامي إزء هذه الرغبة الجامحة إلا التفكير بالعودة من باب الكتابة الصحفية وإجراء الحوارات، لكنه كان قرارًا مؤجلًا لحين إتمام بعض المشاريع والالتزامات التي لا تنتهي . وكان في مخططي البدء بحوار العبادي وشخصيات ثقافية وفنية أخرى قد ألتزمت بمحاورتها في أوقات سابقة.
وأخيرا وقع ما لم يكن في البال.. أمر جلل أصابني بالصدمة، إذ كان قضاء الله أقرب، فخطفت يد المنون الفقيدة يسرى العبادي من بين أيدي محبيها وذويها.. وهكذا لم يتسنَ لي إجراء الحوار مع هذه السيدة الرائعة التي قد قرأت الكثير عن تجربتها، فلفني الحزن مع إنني لم ألتقِ بها إلا مرة واحدة في لقاء عابر، كما يطلق عليه، لكنه في حقيقة الأمر لم يكن عابرًا.
حقا إن الأحداث الجسام غالبًا ما تشل الفكر وتحدّ من تدفق الأفكار وتلجم رغبة القلم بالكتابة. وقد كان مغادرة العبادي لهذه الدنيا رحيلًا صادمًا ومفجعًا فوقفت خلال الأيام الماضيين عاجزا عن رثاء هذه الإنسانة النبيلة، لكن العزاء الوحيد لي ولجميع محبيها إنها رحلت تاركة وراءها إرثًا غنيًا من محبة الناس وبصمة فنية متفردة لن تمحى من ذاكرة التشكيل العرافي ..أجل هو رحيل مفجع لأننا فقدنا العبادي الإنسانة قبل أن نفقدها الفنانة.. إنسانة تمنحك البهجة والسرور بلوحاتها المفعمة بالتفاؤل وسحنتها المكسوة بابتسامة لا تكاد تغيب، فتمنحك الدفء الذي طالما نبحث عنه في هذا العصر الذي يحاصرنا بالمآسي والأوجاع.. فها هي عناوين معارضها مشبعة بالتفاؤل فمن إشراقات 1 إلى اشراقات2 وإلى شموس وشموس.. كانت تحلم بأن يكون هناك ألف شمس وشمس في بغداد ..أجل كانت تتمنى أن تعيش قصة ألف شمس وشمس فودعت هذه الحياة على حين غرة، تاركة خلفها ألف شمس وشمس من دون أن تودع ناسها ومحبيها ومن دون أن تلقي نظرة أخيرة على لوحاتها . رحلت إلى دار البقاء لكن شمسها ستبقى متوهجة في دار الفناء نظير ما زرعته من طيب أينع وأثمر محبة تغمر الجميع وحصادًا ستجد غلته في الفردوس الأعلى.. نعم رحلت شمس التشكيل العراقي، لكنها شمس لا تعرف الأفول وستبقى مضيئة في عليين بإذنه تعالى.