المتتبع لعجلة الحياة وتاريخ المسيرة وسلسلة الأحداث التي مرت به ، يجد أنها شريعة غاب بالمعنى الدقيق ، بل في وصفها شريعة غاب ظلم للغاب ، وقهر لكائناتها الحية ، فكل شرور بني البشر تُرتكب باسم القرابة والصداقة والزمالة وربما الإنسانية ، رفيق اطمأن لمن رافق فوشى به ، وأخ شارك أخيه فسرقه ، وجار اقرض جارا فأنكره ، وزميل أسّر زميله فأفشى سره ، وآخر أئتمن غيره فخانه ، وسوء الوصف والفعل ، كثير لمن أراد التتبع وما مر به ، لكن الحياة تأبى الا أن تستمر بخيرها وشرها ، فمثلما للشر صور وحوادث ووقائع ، للخير مثلها ، فقد شرعت الإنسانية وسنة
الحياة الخير والشر ، وبالقطع أن ليس في ذلك غرابة في متناقضاتها ، لكن الغرابة كلها في استخدام المتناقض من الأوصاف للنيل ممن اختار الحسن والطريق القويم ، وهو المشاهد والسائد ، فمن اختار إماطة الأذى عن الناس وصف بالمدعي ، ومن اختار الحذر في العلاقة وصف بالمعقد ، ومن تجنب المخالطة وصف بالانطوائي ، ومن انكب على الكتاب وصف بالمغالي ، ومن اختط طريق الآخرة وصف بالمتشائم ، ومن عصم نفسه عن المال الحرام وصف بالمغفل ، ومن اختار طريق العلم وصف بغير الطموح ، ومن تمسك بالموروث وما شبّ عليه وصف بالمتخلف ، ومن اختار طريق الفضيلة وصف بالمتزمت ، ومن حلل رزقه والتزم شروطه وصف بالقديم ، وكل ذلك مألوف معروف مشاهد معايش ، لكن المستغرب كله أن يوصف المتواضع بالفقير ، والمهذب بالمسكين ، من باب الاستهداف والإقصاء لا الخلط بين المتناقضات أو المتقاربات ، فالخلط يقع بين الكريم والمبذر ، والبخيل والحريص ، والشجاع والمتهور ، والجبان والمتأني ، والمتدين والمدعي ، والمتشدد والدقيق ، والمعطاء والمتساهل ، والطيب والمغفل ، لكن لا خلط يقع بين المتواضع والفقير والمهذب والمسكين ، إنما الاستهداف وسوء الظن والرغبة في النيل ممن وفقه الله فجعله متواضعاً مهذباً هو ما يقف وراء وصف المتواضع المهذب بالفقير المسكين ، أليس ديننا من يدعو للتواضع والترفع عن الزائلات ( ولا تُصعّر خدك للناس ولا تمشي في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور ) ؟
ألم يتفكر من يصف المتواضع بالفقير بقوله تعالى ( ولا تمشِ في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ) ؟ ألم يُخرج التكبر والترفع أبليس من رحمة الله وملكوت السماء ( فسجد الملائكة كلهم أجمعوا ، إلا أبليس استكبر وكان من الكافرين ) ؟ .
وسائل مشروعة
عجيب أمرك المستهدف المتصاغر لم تجد ما تستهدف به غريمك فوصفت تواضعه بالضعف ، ورحت توسم أدبه بالمسكنة ، وتُشّبه ترفعه عن المغريات بالغفلة ، وليس وراء استهدافك هذا الا الرغبة في التضليل ، والسعي بقصد البلوغ ، واللهثة وراء اعتلاء ما عجزت عن بلوغه بالوسائل المشروعة ، لمحدودية قدرتك ، أو ضعف إمكانياتك أو محدودية مؤهلاتك ، واللافت أن من يستهدف غيره بداعي الضعف ، لأدبه وتواضعه ، راح يستخدم الشعوبية القائمة على مخالطة الناس ومجالسة الفقير والاستماع لأصحاب الحاجات للإيحاء بقربه من معاناة العامة ، وحاجات الغالب ، ومستلزمات السواد الأعظم ، عجيب أمرك الفاشل لم تجد ما ترمي به غريمك فوجهت سهام استهدافك الى حيث الميزة والفضل والمِنة ، فالتواضع هبة والأدب سمة والترفع عن الصغائر توفيق ، واعتلاء المنصب باستحقاق قدرة ، ويقيناً أن رمي المثمر بالحجر غير مستغرب ، واستهداف المليء متوقع ، ومحاولة النيل من صاحب الارث مشاهد ، لكن أن يستهدف المتواضع بقوته ، والمترفع بأدبه ، والعِالم بعلمه فذلك الفشل والعجز كله ، رحم الله الشاعر المصري القبطي عبد الله جرجس الذي ابدع في وصف الفاشل المستهدف ببيت من الشعر راح خالد مُتناقل ( ملأى السنابل تنحني بتواضع … و الفارغاتُ رؤوسُهن شوامخُ ) ، ورحم الله استاذنا العلامة صالح جواد الكاظم الذي تتلمذت عليه في الماجستير ، وكان ظاهرة في العلم ، كبير بلغته العربية والإنجليزية ، منظومة متكاملةً في الوصف والتحليل والنقد والتصويب ، مفضال في تواضعه وأخلاقه وترفعه ، معطاء في خدمته ، غزير بعلمه ، فلم يجد من اغتاض من صفاته ، الا أن يصفه بالمغرد خارج السرب والمجدف عكس الاتجاه ، لتواضع لباسه وقدم مركوبه وانكفائه على علمه ، واختصاصه بطلبته ، ويقيناً أن ذلك هو الكامن وراء تصدي المنافق ، وتقدم المتكبر ، وتربع الكذاب ، وتخلف البلد وتراجع الكبير ” العراق” الذي ملء الدنيا وشغل البلدان ، بإرثه وتاريخه ومقوماته ، حتى تمكن منه الغث واستهدفه المُسيء .