أن طريقة التفكير التي يتبناها شعب أو مجموعة ما هي أحد أهم مكونات الثقافة الأجتماعية لأنها تشكل البرنامج الحاسوبي software لعقل المجموعة. فطريقة تفكير أي شعب هي التي توجه سلوكه الأجتماعي.
أن المجتمعات ذات الثقافة الأجتماعية الصلبة ،وغير المرنة كالعراق يتم برمجتها تاريخياً ليصبح هدفها الأسمى هو المحافظة على المعايير الأجتماعية وعدم خرقها. وبتطاول الزمن وكثرة التكرار ينسى المجتمع لماذا وضعت هذه المعايير أساساً ويحل المعيار محل الهدف الذي وضع من أجله. أن ظاهرة نسيان الهدف والتركيز على الوسيلة ظاهرة بشرية معروفة بل وهي موجودة أيضاً في المجتمعات الحيوانية كتجربة القرود الخمسة الذين بتطاول الزمن والتكرار نسوا أن أسلافهم توقفوا عن محاولة جلب الموز لأن الماء البارد ان يسكب عليهم عندما يحاولون ذلك وليس لأن الموز فيه مشكلة! لقد حافظوا على معيار عدم جلب الموز حتى بعد ان زال خطر سكب الماء البارد الذي أجبرهم على وضع معيار معاقبة كل من يحاول جلب الموز.
طريقة التفكير
أن طريقة التفكير هذه تتأثر بالتاريخ الذي نشأت ونمت فيه تماماً مثل برمجيات الحاسوب التي تكتب بطريقة تستجيب للهدف الذي أُنشأت من أجله،ثم طُورّت بناء على تفاعلها مع محيطها الذي نشأت فيه. فطريقة التفكير لا تنشأ في فراغ وأنما في محيط بيئي ضمن سياق تاريخي معين. وهنا تكمن معضلتنا الكبرى،وهي ماهية السياق التاريخي الذي تشكلت فيه طريقة التفكير العراقية. مشكلتنا كما يبدو أن طريقة التفكير تجاه ثقافتنا نشأت في حقبة زمنية معينة طبقاً لذاك الظرف الذي نشأت به. لكننا لم نغادر طريقة التفكير تلك ومتمسكين بها كمرجعية ثقافية كبلتنا بقيودها. أن هناك تشوش مفاهيمي واضح بخصوص نشوء وتطور الثقافة العربية،ومنها العراقية.هل نحن أبناء ثقافة سومر،وبابل وآشور وكل الحضارات التي وُلدت على ما بات يعرف اليوم بالعراق،أم نحن أبناء الثقافة الجاهلية التي سبقت الأسلام كما يرجح ذلك الجابري؟
هل صحيح أن ثقافتنا بدوية (كما قال الوردي رحمه الله وأيده كثُر بأعتبار أن معظم من يسكن العراق اليوم من عرب جاؤوا من جزيرة العرب،أم نحن ورثة ثقافة العراقَين(البصرة والكوفة) أم الحضارة العباسية بكل تاريخها؟ هل الثقافة الأجتماعية التي نعيش في ظلها ونفكر بأسلوبها هي نتاج القرون الاربعة التي أعقبت سقوط العباسيين،كما يشير لذلك د سيار الجميل، وناقشها بأسهاب د علي الوردي في كتابه ملامح أجتماعية من تاريخ العراق الحديث،أم انها ثقافة تأثرت بالتحولات الأجتماعية والسياسية والأقتصادية الكبرى أبان العهد الملكي والجمهوري الاول كما عرضها د بطاطو في موسوعته الاجتماعية”العراق”؟
هل تأثرت شخصية الثقافة العراقية بآثار حكم البعث وجمهورية الخوف كما وصفها كنعان مكية،أم أن كل ذلك ليس مهماً ولا يشكل أثراً كبيراً في الثقافة الأجتماعية السائدة التي تأثرت بشكل رئيس بالغزو الأمريكي وأحتلال العراق كما يعتقد د الحيدري،وفارس نظمي؟قد يكون العراق أستثناءً نادراً في التاريخ الأنساني بسبب ثراءه التاريخي الذي يبدوأنه تحول الى نقمة مماثلة لنقمة ثراءه المادي. فأرض العراق تكاد تكون الأرض الوحيدة في العالم التي نشأ وترعرع فيها هذا الكم الكبير من الحضارات سواءً تلك التي سبقت ميلاد السيد المسيح أو أعقبته.
لقد أزدهرت ثقافات النيل والفرس والصين والهند والاغريق والاندلس في حقب تاريخية معينة خبت بعدها.أما في العراق فعلى مدار آلاف السنين التي سبقت الميلاد كانت هناك حضارة أو أكثر(وبالتالي ثقافة أو أكثر) تنشط على ثرى العراق،الذي تمتد جذوره عميقاً في التاريخ وأمتدت أغصان شجرته عبر أزمان وحقب طويلة كانت في بعضها خضرةً مزهرة،وفي كثير من الأحيان يابسةً مجدبة. ف
كيف يمكن أن نعامل كل ذلك التاريخ بذات الكيفية؟(يتبع)
ملاحظة:كنت أعتقد أني سأنهي المقال في هذه الحلقة لكن تبدو هناك حاجة لحلقة قادمة للخاتمة.