الأقوياء امتلكوا السلطةَ بقوّتِهم لبسطِ سيطرتِهم على الضّعفاءْ ، الضعفاءُ استعاروا قوةً غيبيةّ هدّدوا بها سلطةَ الأقوياء . ظلتْ سلطتا المَلك و الدّين ثنائية للنزاع الانساني على مر العصور والحقب ومراحل التطور البشري ، وهو يتمظهر بوسائل واشكال وآليات شتى سواء في تآمر الكهنة للايقاع بالملوك تارة أو بتعظيمِهم ومنحِهم بركات الآلهة والانتسابِ لهم تارات اكثر.
وقد شهِدَ التاريخُ حوادثَ وقصصاً ومواجهات شرسة دموية بين السلطتين ، إمّا باستيلاء رجال الدين على شؤون البلاد والعباد ، او بالتسوية بين الفريقين من خلال مساومة الملوك لتقاسم النفوذ ، أوبانتزاع الملك السلطتين عنوة من الجميع ، كي يحملَ منفردا أختام المملكة وأختامَ الله في آن واحد ،
ولعل ابرز مثال على تراجيديا ذلك الصراع ماحصل في إنكلترا مطلع القرن الثاني عشر خلال حكم (هنري الثاني) ومحاولته منح صديقه الحميم الفاجر مستشاره ورفيق مجونه ( توماس بيكيت ) رئاسة اساقفة الكنيسة بدل رئيسها المتوفى ليجرد الكنيسة ورجالها من التدخل في شؤونه ويستحوذ على نفوذها ، وكاد ان ينجح وسط ذهول الناس اجمعين، لولا انقلابُ بيكيت على صديقه الملك، حيث تلبّسته روح الراعي الكهنوتي المقدسة التي قادته بعد رحلة الكهنوتية الى حتفه وادت الى قتله ببشاعة داخل الكاتدرائية ، خائنا بتعريف الدولة وكافراً بتعريف الدين!
الحدث الجلل الذي ألْهَمَ السينما والشعر والمسرح باعمال خالدة ، منها فيلم (بيكيت او شرف الله) المأخوذ عن مسرحية الكاتب الفرنسي جان إنويه بالاسم نفسه حيث أدى دوريه الرئيسين الممثلان العملاقان بيتر أوتول (هنري الثاني ) وريتشارد بيرتون ( بيكيت) ، ومسرحية ت. س. اليوت (جريمة قتل في الكاتدرائية) .
المراد من القول ان لعبة السلطة بين الدين والملك لم تتغير لكنها تاخذ اشكالا مختلفة ، سلطتان متنافرتان حتى وان كانتا في قبضة شخص واحد، كما هو الحال مع ملكة بريطانيا الحالية التي تمثل رأس الكنيسة الأنغليكانية بالاضافة لكونها ملكة ، حيث يتعين على كل ملك وملكة في بريطانيا أن يكون من أتباع هذه الكنيسة تحديدا ، دون ذلك يفقد هو او ولي العهد الحق في العرش حسب القانون المشرع من عام 1701 م حتى اليوم .
ومع ان الملكة في اطار الملكية الدستورية وديمقراطية بريطانيا لم تعد سوى رمز فلكلوري للبلاد، لادين ولادولة ، الا أنها ممسكة بهذين الصولجانين مثل عيني ميتٍ مفتوحتين على الحياة .
الملوك الذين امتلكوا الأرض وورثوّها لابنائهم وأصبح نسلُهم مختلفا عن نسل الناس الرخيص ، أفادو من الفكرة ، فكرة الرمزية في الدين التي تفوق كثيرا رمزية الملك ، الاولى لاتحتاج قوة كي تدوم والثانية طارئة لكنها باقية طالما الحاكم يجزّ الرقاب . فتعاملوا مع الموضوع كالشمع الأحمر لثبات سلطانهم والاراضي التي يستحوذون عليها .
ورغم استحداث الديمقراطيات وحقوق الانسان وانظمة الادارة الحديثة وعصر الحريات السياسية والاقتصادية والمساواة واهتزاز القيم الدينية في المجتمع الغربي الا ان فصيلة الدين دخلت تواريخ العوائل الحاكمة فوق الارض .
ويرى الباحث أمير بايروش أحمدي في كتابه ‘الدين والدولة في الدساتير الأوروبية ( إن الإعلان عن دين رأس الدولة أو دين الدولة لا يهدد الديمقراطية في هذه الدولة أو تلك، بل إنه يستكمل الجانب الروحي إلى جوار الجانب المادي، اللذين يعبّران عن الطبيعة الإنسانية. ومن المهم أيضاً الإشارة إلى أنه من بين الدول القديمة في الاتحاد الأوروبي نجد أن الممالك هي أكثر شعبية وأكثر محافظة، حيث إنها مرتبطة مع تقاليد شعوبها خاصة فيما يتعلق بالدين. أما الجمهوريات منها فيلاحظ فيها مقاربة إيجابية تجاه الديانة التقليدية للشعب مع منحها مزايا معينة ولكن من دون أن تجعل منها ديانة رسمية للدولة.)
الحقائق كلها تشير الى ان ايا من تلك الاطراف يبدو زاهداً بالسلطة ناعماً متساهلا حين يفقدها، وشرسا شرها حين تقع بين يديه . لكن الفكرة التي تحت الجلد ، هي أن أهل الاعراق ودماء الملوك ، يترفعون عن الانتساب الى اهل العقائد والكهنة والدين ، ولايفضلون الانتساب لهم دما ، ولذا لنْ تجدَ ملِكاً يوافق ان تعود اصوله لرجالِ دين، مثلما يترفع الملوك والامراء ان يكونوا شعراء او فنانين ، لان دماءهم كما يرون انقى من دمائنا ، وان سلطة الوراثة او ما أسميه بحُكْمِ ( الحيامن) للبشر ( مقالنا المقبل )، تجعل من انتساب الملوك الى سلالات رجال الدين في التاريخ تقليلا من شانهم ، رجال الدين بالنسبة للمشايخ والامراء ورؤساء القبائل ليسوا سوى ناس منشغلين بالآخرة مسالمين ضعفاء،اسرى للوهم، لكنهم مخيفون اذا استمكنوا ، قساة شرهون قفاصةُ للفرص، خارجون دائما على القانون لايصلحون الا لتسويق الملك وتثبيته وتهدئة المواطنين ولجم انفعالاتهم ، وينبغي تحييدهم وتجنب شرورهم ، ولذلك لايشبع غرورالسلاطين وجبروتهم (ونقاء) دمائهم أن يكونوا من اهل الدين ،حتى وان اعتبروا من سلالة الانبياء.