رصدتُ من خلال كتاباتي الداعية الى الدولة الحضارية الحديثة موقفين سلبيين منها:
الموقف الاول يأخذ على فكرة الدولة الحضارية الحديثة انها فكرة طوباوية، حالمة، بعيدة التحقق.
الموقف الثاني انها لا تقدم حلولا عاجلة لمشكلات انية يعاني منها المجتمع العراقي مثل مشكلة الفقر.
صحيح ان د ح ح فكرة بعيدة المدى، لكنها ليست فكرة طوباوية، ولا يصح مقارنتها بجمهورية افلاطون او يوتوبيا توماس مور؛ انما يمكن مقارنتها بالوعد الالهي الذي تضمنته الاية الكريمة التالية:”وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” (سورة النور الاية 55) ويقول الطبري في تفسيره ان هذه الآية “نـزلت على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بسبب شكاية بعض أصحابه إليه في بعض الأوقات التي كانوا فيها من العدوّ في خوف شديد مما هم فيه من الرعب والخوف، وما يلقون بسبب ذلك من الأذى والمكروه”. فوعدهم الله بما كان يبدو خياليا قياسا الى حالة الخوف والضعف التي كان المسلمون الأوائل يمرون بها، لكنه ليس الوعد المستحيل، انما هو الوعد الممكن التحقق اذا توفرت شروطه ومستلزماته. كذلك فكرة د ح ح يراها البعض طوباوية فقط لانها قد تبدو بعيدة لكنها بالتاكيد ليست مستحيلة والدليل المادي الملموس على ذلك ان مجتمعات كثيرة كانت في اوضاع واحوال اسوأ مما عليه المجتمع العراقي حاليا لكنها استطاعت بعد جهد وتعب وزمن ان تحقق الكثير من مواصفات وخصائص د ح ح واحتلت مكانا مرموقا في سلم التدرج الحضاري الذي تشخص بعض درجاته مؤشرات عالمية في مختلف الجوانب المندرجة ضمن قياس د ح ح.
الفكرة الكامنة وراء الدعوة الى د ح ح في العراق تتمثل في حقيقة اجتماعية تاريخية تحدث عنها السيد محمد باقر الصدر مفادها ان “كل مسيرة واعية لها هدف، وكل حركة حضارية لها غاية تتجه نحو تحقيقها، وكل مسيرة وحركة هادفة تستمد وقودها وزخم اندفاعها من الهدف الذي تسير نحوه وتتحرك الى تحقيقه. فالهدف هو وقود الحركة (…) فالمجتمعات كلما تبنت في تحركها الحضاري هدفا اكبر استطاعت ان تواصل السير وتعيش جذوة الهدف شوطا اطول، وكلما كان الهدف محدودا كانت الحركة محدودة واستنفذ التطور والابداع قدرته على الاستمرار بعد تحقيق الهدف المحدود”.
انا اؤمن بهذه المقولة، وكتاباتي حول د ح ح تستهدف الذين يؤمنون بهذه المقولة ايضا. والغرض من هذه الكتابات هو اقناع المجتمع العراقي بان يضع امامه هدفا كبيرا هو د ح ح دون ان يعني ذلك عدم الالتفات الى المشكلات اليومية التي يعاني منها المجتمع، مثل الفساد وبخاصة فساد الطبقة السياسية، والفقر، والبطالة، وسوء الخدمات وغير ذلك مما يعرفه الناس، وانا منهم.
الغرض هو ان يضع المجتمع العراقي نصب عينيه هذا الهدف الكبير وهو يتحرك لمعالجة المشكلات المذكورة، او وهو يتحرك لتحقيق الاهداف الاصغر حجما والاقرب زمنا من الهدف الاكبر اي الدولة الحضارية الحديثة. والمعتقد ان اتخاذ د ح ح هدفا اعلى سوف يمد المجتمع العراقي بطاقة اضافية للحركة والتحمل والابداع، وسيكون الهدف الاعلى (د ح ح) اطارا عاما للمنظومة القيمية العليا التي توجه الحركة الحضارية للمجتمع العراقي. وسيكون هذا من ضمانات حل المشكلات الانية للمجتمع اضافة الى توفر الشروط المادية الاخرى للحل. وستكون الحلول الانية جزءا من الحراك العام نحو الدولة الحضارية الحديثة.