كأننا لا نفكر ، ولم نتعلم من مدارسنا شيئا ، او من مجالسنا درسا ، لكن عندما يتكلم أحدنا يبدو وكأنه علاّمة زمانه ، يخوض في غمار جميع الموضوعات بعيدها وقريبها ، ويدعي من العلم غزيره ، ومن الثقافة أوسعها ، يوحي بمعرفة كل واردة وشاردة ، كل هذا الادعاء وليس لدينا القدرة على التنبؤ او استشراف المستقبل ، او أن نحسب أحسن الاحتمالات وأسوأها ، ليس لدينا امكانية التوقع ، والا بماذا نفسر أن يموت العشرات ويصاب المئات بحريق قاعة أعراس ، باتت معارفنا تتشكل بتجارب الصدفة وليس بالتعليم ، نكتوي بنيران الحرائق لنتعلم ان للسلامة اجراءات ، وان للرقابة دورها في حماية الناس من شراهة الموت في بلادنا ، وان من غير الجائز أن يعمل أصحاب قاعات المناسبات على هواهم ، بلا حسيب او رقيب ، فتتحول أعراسنا الى مآتم .
بعد حريق الحمدانية بدأت تطرق مسامعنا ان الجهات المختصة تحركت على عجل لفحص القاعات ، ومطالبة أصحابها باتخاذ وسائل السلامة تصميما وبناء ووسائل للطواريء ، أين كنتم يا سادة ؟، ألم يخطر ببالكم حدوث مثل هذه الكارثة من قبل ، او تتوقعوا تسمم الناس بالمأكولات التي تقدمها ، وهل تعرفون أي المطاعم جرى الاتفاق معها ، هل حدث ان قامت لجنة صحية بزيارة مفاجئة لهذه المطاعم ؟.
ليس جديدا أن تتشكل معارفنا بالمصادفات ، فقد سبق ان اكتوينا بحرائق الطائفية المقيتة ، وراح ضحيتها الآلاف ، لكن أحدا لم يشغل باله بالتفكير : ماذا علينا ان نفعل لكي لا تتكرر مستقبلا ، وألا تمد مخالبها الى مؤسساتنا ؟، وصرنا نسمع بعد أكثر من عقد ونصف من يدعو لتشريع قانون لتجريم الفعل الطائفي ، ما شاء الله ، ما هذه السرعة الفائقة في معالجة مرض اجتماعي قاتل .
لقد سخف أفكاري سيادته يوم قلت له ان من مات بمرض السرطان في محافظتي لم يتجاوز عددهم خمسمائة شخص خلال عامي 2006 و 2007 ، لكن الذين استشهدوا خلالها بالمرض الطائفي أحد عشر ألف انسان ، فأي المرضان أجدر بالاهتمام ؟، ولذلك المفروض أن تخصص من الأموال لمعالجة الطائفية أضعاف ما يخصص للسرطان .
ما أعظم منجزاتنا ، ينشرح لها صدرك ، ويشعرك سماعها بالأمان ، لكن للأسف جميع ما يُشاع من عمل على الورق فقط ، ولم يحدث يوما أن طلبنا ممن تولوا زمام الأمور استعراض ما كان عليه الواقع قبل توليهم مناصبهم وما تحقق أثناء ولايتهم بالأرقام والشواهد والأدلة التي يراها الناس على الأرض . للأسف يأتي المسؤول ويذهب والأمور من سيء الى أسوأ ، بينما نسبح في خير وفير ، وعليه يحسدنا الآخرون .
تتألم كثيرا وأنت تشاهد الوزراء المصريين يستعرضون في مؤتمر حضره رئيسهم عبد الفتاح السيسي ما حققوه من منجزات لافتة خلال السنوات الأربع الماضية بالفقر الذي تعانيه بلادهم ، وأكثر ما لفتني ما حققته وزارة الثقافة لديهم ، هم يدركون أكثر منا ان الثقافة مدخل للارتقاء بكل شيء ، لأن تشكيل الوعي مرهون بها وليس بغيرها ، واذا تبلور الوعي تحقق الانجاز المطلوب في كل الميادين .
فلا تستغرب هيمنة اللامبالاة على سلوكنا ، وتراجع الانتماء لوطننا ، لأننا تركنا الوعي والمعارف تتشكل بتجارب الصدفة ، وليس بالدرس المنهجي مذ يحط أطفالنا أقدامهم في المدارس ، بل صرنا نخشى عليهم من مدارسهم ، نرسلهم صفحات بيضاء ناصعة ويعودون الينا محملين بكل ما هو قبيح ، ألفاظ بذيئة ، سلوك عدواني ، عدم القدرة على التنظيم وغيرها .
ليس عبثنا عندما وضع الأوائل التربية قبل التعليم ، ومع ان أغلب مدارسنا بائسة في كل شيء ، ومع هذا البؤس قدمت التعليم على التربية ، واتكأت على الآباء في تعليم الأبناء أكثر مما استندت الى جهودها ، اما التربية فأجزم بغيابها الا من جهود شخصية لبعض الذين مازالوا يحللون ويحرمون . أما الأكثرية فرأس الشهر بات هو المبتغى . وفي هكذا حال كيف لا تلتهمنا الحرائق.