الشاعر محمد آدم، صاحب تجربة شعرية عميقة ومتعددة المساحات وهي كذلك لا تزال خصبة كأن الشاعر في بداية أناقته الشعرية ولا يزال لديه الكثير والكثير ليقوله وقد نلاحظ أن بعض التجارب الشعرية تُعلن توقفها بعد عدة عقود ولا تجد ما تقوله أو تعيد تكرار القديم وعمل مونتاجات جديدة ولكن يبدو محمد آدم كطفل لا يسائم من دخول معارك الأحلام والكوابيس وربما في صحوته يكون ثملا بأحلام اليقظة ولا يتورع عن الدخول إلى عالم الجنون ونشعر أن هذه المغامرات يمارسها كنوع من الرياضة الروحية والتأمل في الكون والحياة والذات ومحاولة فهمها، هو لا يدعي أنه فيلسوف ولا عالم ويكتفي بصفة شاعر وهنا في هذه المحاولة التأملية لهذه التجربة الشعرية العميقة سوف أحاول التوقف مع قصيدته مرثية آدم والتي نشرت حديثًا على موقع كناية لأول مرة ولم تتضمنها أعماله الكاملة والتي صدرت في خمسة مجلدات وبالتأكيد هناك الكثير من النصوص الجديدة ربما لم تنشر له.

مرثية آدم..
محمد آدم

كم مرة صرخت إلى الموت
أيها الموت خذني إليك
لا أريد هذا العالم
ولا أريد هذه الحياة
أنت تلعب الكرة البنفسجية على كافة الملاعب
تأتي وتذهب مثل كلب
تتنطط علي الجدران
والنوافذ
والشبابيك
لا تعبأ بالشمس
ولا بضحكات الأطفال
وتركض بالنهار والليل
خلف جثثك المدماة بالضحك
والبكاء
لم تحاول مرة واحدة أن تتخفف من أعبائك
ولا أن تلقي بحمولاتك إلى البحر
لم تحاول أن تتمرد على الله
في كل يوم تحمل كل هذه الجثث إلى المقابر
وأنت أنت بنفس ملاءاتك المزركشة
وأسنانك التي يبكي منها الدم
ألم تجلس ليوم واحد على شجرة سنط
ألم تجرب لمرة واحدة طعم الجوع
والألم
متى تقدم استقالتك إلى الله
متى تتقاعد
وتبحث لنفسك عن مهنة أخرى غير هذه المهنة اللعينة
كم تقاضيت من أجر على كل هذه الجثث
أيها الموت
وماذا تفعل في إجازاتك الرسمية
هل تذهب إلى مقهى زهرة البستان
أم تجلس وحيدا تحت عريشة السماء الإلهية في انتظار ضحية جديدة
لم لا تتعلم أن تجلس مثلي على المقاهي
وتتناول طعام إفطارك
وتشرب معي الشاي المر؟
لم لا تذهب إلى قارة أخرى
وتبحث لنفسك
عن وظيفة أخرى غير هذه؟
كيف كانت طفولتك أيها الموت
وماذا فعلت في ريعان شبابك
هل ولدت قاتلا
ومن علمك رؤية كل هذه الجماجم
وأين تسهر آخر الليل
كم عدد اجولتك
هل تتذكر الاسكندر الأكبر
وايزادورا
وهيباتيا
ويسوع المسيح وهو هو على الجلجثة
أين تعلمت مهنتك
وفي أي جامعة من جامعات الرب جلست بين المقاعد
وماذا تفعل في أوقات فراغك
هل تلعب السيجة مع ذريتك الشمطاء
هل جربت أن تدخل القبر لمرة واحدة
وأن تتفحص بكاء العجائز
والشمطاوات
وأنت تركب دراجاتك الهوائية وتقطع العالم من الشرق إلى الغرب
ومن الغرب إلى الشرق
بحثا عن فريستك القادمة
ألم تجلس لمرة واحدة على العشب المبتل
لتراقب الفجر
والشمس
وحركة النجوم
وموسيقي الجاز؟
وماذا ستقول للرب بعد أن تنتهي من مهمتك؟
وماذا ستفعل إذ ذاك؟
هل ستبتكر موتا يليق بك
أم سوف تأخذ صناراتك
وكافة مصابيحك الليلية
والنهارية
وتذهب لها إلى البحر
وماذ ستصطاد بعد إذ
هل ستتحول إلى العشب
والزنابق
أم ستجلس وحيدا علي صخرة سيزيف
في انتظار أن يكلفك الرب بمهمة جديدة
ربما ترحل بعدها إلى خليج المكسيك
أو القطب الجنوبي
لنبدأ في الفحص والتدقيق
عن سحلية هنا
أو ثعبان هناك
أو ربما تخلع نعليك وتلقي بكافة مسدساتك
وصناراتك
إلى اللاشىء
إذ ذاك
سيجلس الرب على أريكة العالم الخاوية
ويأخذ في عزف سيمفونيته
الخالدة
عن العدم
وعبث العالم
أيها الموت
متى ستجلس على مؤخرة
الكرة الأرضية
وتتمرد
على كل أكاذيب الرب
الذي أخذ يتسلى
هو والشيطان
بين عالم من الموتى؟

شعرية محمد آدم كأنها نافذة تُطل على عوالم متعددة، والكثير منها ميتافيزيقية. ويبدو أنه يمارس اللذة الشعرية للتورط في الألم وليس للفرار منه، وهو الصوفي المتلهف للمعرفة وليس المدعي بوصوله إلى حالة اليقين. الشاعر هنا يتحدث في القصيدة عن الموت ويوجه سلسلة من الأسئلة إليه، يحاوره، يشاكسه، ويتآسف لحالته المرثية. يصور لنا مشاهد متعددة من عدة زوايا، وتوجد في بعضها الكثير من الاهتزازات والتناقضات. الشاعر في البداية يطلب من الموت أن يأخذه إليه، ويعلن ملله من حياة بشعة، وربما أبشع من عالم الموت. ثم يصف الموت بأنه كلب، ويستخدم الكثير من التصويرات ليظهر فضاعة وقسوته، وكأنه سيقدم شكوى جنائية حيث يرصد الكثير من التجاوزات.

تذكرني هذه القصيدة ببعض أفلام الشاعر جان كوكتو مثل فيلم “دم شاعر” وفيلم “أورفيوس” وأفلام إنجمار بيرجمان، وخاصة فيلمه الأكثر تعقيدًا فيلم “الختم السابع”. وهي أعمال تحوي أسئلة وليس تقديم رؤية معرفية ثابتة. وكما تعلمون، فإنها تحاول أيضًا التعمق في المعاني الفلسفية والتأملات المجنونة في تصوير الموت والحياة، وتكون مشبعة بالألم ومغامرة الشعور، ملامسة عوالم أخرى مخيفة. وقد تتعدد تأويلات الموت؛ فهو ليس فقط “ملك الموت وقابض الأرواح”، بل يُنظر إليه أيضًا كمحاولة للفرار من العالم الواقعي المرهق والساذج، ورغبة في الاندماج في عوالم متعددة وميتافيزيقية، حيث تتاح مساحات أكبر للحلم والتخيل.

يمكن أن تمثل صورة الموت أيضًا البحث عن أسئلة لم يسألها الشاعر نفسه، والشاعر يلتقط هذه المشاهد المتناثرة. فهو ليس في وضعية المصور الذي يملك معدات كافية وحديثة لالتقاط الصورة من بعيد وبشكل مريح، والعودة لعمل المونتاج وحشو المؤثرات التشويقية لغرض الإبهار. يعترف الشاعر بضعف الرؤية والإمكانيات، ويبتعد عن أي فخامة لغوية جذابة. يستخدم أحيانًا لغة وكلمات تقترب من المفردات الشعبية. يكسر الحدث أو يتركه غير مكتملًا ليذهب إلى مشهد آخر، فمثلاً قوله: “انت تلعب الكرة البنفسجية على كافة الملاعب”، ثم يأتي المشهد الثاني، “تأتي وتذهب مثل كلب، تتنطط على الجدران والنوافذ والشبابيك”. وهكذا، فلسنا هنا بصدد حكاية كاملة ولا رؤية يقينية، ولا حتى ثمة مرجعيات ثابتة ومحددة. فهو كمن يسطر كتابه المقدس الذاتي، يعلن أخطائه ويعود الفلاح البسيط ليغترف منها، وثمة رغبة في بعض الحالات للتخلي عن الشعرية وتجاوزها أو نسفها، ثم يعود يلتقط شذرات منها، يهدم ثم يرمم ويعيد التشكيل.

فهو الباحث عن السؤال والشك والحقيقة. وفي كل لحظة لو نتأمل هذا النص، قد يصيغ أسئلته كطفل أو كأي فلاح بسيط. يدخل في هذه الأزقة المخيفة ولا يدعي الشجاعة والقوة، وقد يفر ويلهث ويصاب بالذعر كأي إنسان. يراوده الخوف من كل هذه الأهوال، أي أهوال لحظة الموت أو قبلها بلحظات وثم ما بعد ذلك. وكذلك، فالموت وحتى أدانته ليست إدانة لشخصه كملاك حقيقي، وثمة ادانات واعتراضات على أسباب الهلاك والدمار التي أصبحت جزءًا من حياتنا وواقعنا، مثل الحروب والصراعات على السلطة والاستبداد والفساد الكوني.

كأننا هنا مع بعض اللقطات من فيلم “هورشيما حبي” للمخرج الفرنسي الآن رينيه. فتارة هناك قداسة للمقدس، وأحيانًا يكاد ينزع القداسة عن بعض المقدسات المعروفة. المعرفة والسعي إليها ربما يمكن الوصول إلى بعضها عبر بوابة التوغل في الحلم. وكأنه في بعض الحالات يُغلق سمعه وبصره ويتمادى بالبقاء في عالم شائك وغير ثابت، لا تحكمه الفيزياء ولا جغرافيا ولا حدود.

عبر هذه الاستدعاءات للموت، يصور الشاعر لنا لقطاتٍ ذاتية من برنامج حياته اليومية، وهو برنامجٌ أكثر من عادي وإنساني محض. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يذهب إلى مقهى زهرة البستان. وحتى هنا، نجد أن الشاعر استغنى عن علامة الاستفهام لأن السؤال لم يكن واحدًا، بل عدة أسئلة. يجلس الشاعر في المقهى ويتناول الفطور والشاي المر، وهذه أفعالٌ روتينية وليست خارقة أو مذهلة، بل هي أفعالٌ إنسانية، يمكن أن تقوم بها أي مخلوقٍ متوحشٍ أو أسطوري، وتضيف إليه بعض الصفات الإنسانية، تمامًا كما حدث لشخصية إنكيدو الذي شرب النبيذ وأكل الخبز بفضل العاهرة الإنسانة التي روضت ذلك المخلوق السماوي الوحشي. فهل من أمل لترويض الموت وإنسانته؟

محمد آدم، في هذا النص يبدو وكأنه يرمي سهامه في عدة اتجاهات، ولا يرغب في أن يثقله بحمولات سياسية مباشرة. ولكن هناك تلميحات وتهكم ورفض للاستبداد، وتلك الشخصيات الأسطورية تأتي بمثابة رموز أو الأصح ميتافور متعدد الدلالات وفيه بعض التعقيدات والتشويش. إنها ثورة من الغضب تجاه ما يحدث في واقعنا المظلم، حيث نفقد إحساسنا بإنسانيتنا ويعبر النص عن معاناتنا. فنحن نتوق إلى حياة بسيطة، نذهب إلى المقهى أو الحانة ونثرثر أو نكتب أو نحلم، نود أن نعيش الحياة البسيطة المتاحة لنا. ولكن يبدو أن العالم يفتقد بوصلة سليمة وصادقة، وكذلك الموت، فهو يبذل جهوده في عمله ولا يأخذ إجازة أو يستقيل، ولا يعيش لحظات سعيدة.

ثمة سعي ورغبة حالمة من أجل العثور على طريق صحيح كي نستعيد إنسانيتنا المقهورة والمفقودة في العالم الصاخب. يتطلع الشاعر إلى لحظات هادئة ومضحكة من الحياة القروية البسيطة، مثل رؤية كلب يتنطط بفرح وأطفال يبتسمون وغيرها من المشاهد السعيدة. يدعو الشاعر ملك الموت أن يشاهد ويجرب تلك اللحظات، ويدعو أيضًا الآخرين للشعور بقيم الإنسانية الأساسية التي قد تكون قد تضررت بتعقيدات الحضارة المعاصرة. الشاعر يذهب إلى الأماكن البسيطة والمفتوحة، ولكنه يشعر بالوحدة والعزلة، فهو كمن يصارع قوى متعددة، وليس الصراع فقط مع الموت، بل أيضًا مع الأسباب الوحشية والقاسية التي تحيط به ويخرج الشاعر برؤية كونية وكأنها وصية إنسانية من شاعر، مجرد رؤية شاعر وليس مُدعي المعرفة واليقين.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *